نتحدث كثيرا في مصر عن العودة لافريقيا، او قوة حضورنا او تاثيرنا في افريقيا…..ألح ، ويحول الاعلام ذلك الي مجموعة زيارات او احتفاليات… مما لا يحقق تاثيرا حقيقيا… وبوجودي مؤخرا في جنوب افريقيا.. ومتابعة معاركهم الداحلية الحادة ، رايت خيطا اخر عن وجودهم المتنامي بشدة في القارة….كيف ؟
يقدم ” الزعيم ثابو مبيكى ” بين يوم وآخر ، مثالا عمليا عن فاعلية ” الزعامة البرجماتية ” ، لإسمه ، فى بلده وطبقته ، وقارته . ولا يشاركه فى ذلك تقريبا إلاّ “أوليسيجن أوباسانجو ” من نيجيريا ، ممن يحرصون على السلوك القيادى ، وهم فى الحكم وخارجه ، حتى أننى دُهشت فى “جوهانسبرج” مؤخرا مما ينشئه ” مبيكى ” بين عام وآخر ، بعد ترك الرئاسة – من مؤسسات لتدريب الشباب والقادة أو تنمية الفكر الإفريقى مثل معهد القادة فى جامعة “جوهانسبرج” ، أو مؤسسة مبيكى للحوار أو صندوق تنمية الديمقراطية…الخ مما يتابعه أستاذ نيجيرى ” A.Adebajo ” بدقة فى كتاب حديث له عن :Thabo Mbeki 2017- ، بل ويسميه ” الملك الفيلسوف ، وفق التصنيف الأفلاطونى – وهو مدير معهد البان افريكانزم في جنوب افريقيا ..والغريب أن ” مبيكى” لم يتورع أن يعلن نفسه مبكرا أواخر التسعينيات أنه ” تاتشري” أى فى أقصى مواقع ” عنف السوق والرأسمالية ” ، وهو ابن حزب ” المؤتمر الوطنى الإفريقى ” ، الماركسى سابقا …! كما أنه بات يشتهر ببناء صرح الطبقة الوسطى أو البرجوازية السوداء ، وهو القادم من معارك ” سويتو ” و ” شاربفيل الاجتماعية ” …وابن ” نلسون مانديلا ” – ماديبا الفقراء السود . ومع ذلك يتمسك بالاعتماد على طبقة البيض الفاعلة تنمويا فى نظره مما جعله يترك لهم 70 % – ما زالت – من ثروة البلاد ، ويوقف الإصلاح الزراعى فى بلد تحتكر 80 % من الأراضى للبيض ، بينما يتيح لأبناء جلدته السوداء الكثير من فرص الاثراء الفاحش ( أربعة من كبار المليارديرات من قادة الحزب ) أو الكثير من الفقر المدقع وسط حالة فساد مشهودة . وهناك مع ذلك ” عالم المشروعات الصغيرة تتاح للبعض خارج جنوب إفريقيا ” ..وهو إذ يعلن فلسفته عن النهضة الإفريقية ، إنما يعطيها معنى التنوع العنصرى الواسع الذى يجمع البيض والآسيويين والملونين تحت شعار جديد فى مقال شهير : “أنا إفريقى ، لينزع الهوية العنصرية عن الوطن الجديد وإن بقى لصالح البيض ، لكنه يجنبه الصراعات المحتملة .
كل هذه المقدمة تحاول الإجابة عن سؤال : كيف تتحرك زعامة براجماتية مثل ” مبيكى ” ولا نقول “كاريزمية مثل ” مانديلا” ، ليضع نفسه وبلده فى قلب القارة ، بكل هذا الحضور الذى سنتحدث عنه مع أنها كانت تخضع للمقاطعة الكاملة وعزلة الأبارتهيد المعروفة …؟
وهذا الدرس الذى نقدمه عن ” ثابو مبيكى ” ، وجنوب إفريقيا ، هو الدرس الذى أقصد أن يتفهمه أى باحث حول دور الرئيس الحقيقى مهما كان الرأى فى سياسته، ويخص ذلك بعض من الرؤساء العرب الذين يسعون ” للحضور العالمى ” فقط عن طريق المال أو التدخل المشبوه ، أو حتى الإرهابى ، أو الزيارات الشكلية ، متصورين أن هذا هو ما يسمى ” الدور ” الوطنى أو العربى ، أو استعادة الدور والحضور دون إدراك البعد الحقيقى لمعنى الدور، إذا كنا نقصد البناء على المدى الطويل لا الشخصى فقط ….
” ثابو مبيكى ” ينطلق من قاعدة حزبية قوية لحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى ، متحالفا مع الحزب الشيوعى ، واتحاد العمال ، فى حكومة مستمرة ، بتنويعات وقتية طبعا – منذ حوالى ربع قرن ، ويحصل على أغلبية 64-69 %فى البرلمان طوال هذه المدة ، وضم إليه بعض أجنحة من تنظيمات البيض ، بينما يواجه ” التحالف الديمقراطى ” الأكبر للبيض ، بل وخسر الكثير من قواعد الشباب ممن أسسوا حزبا راديكاليا ” باسم مناضلو التحرير الاقتصادى ” أو ” المناضلون من أجل الاقتصاد الوطنى ” Economic Freedom Fighters إن جاز التعبير … وهو يبدو الان داعما للسيدة زوما في معركتها القادمة ضد الملياردير النقابي فوموزا منافسه الدائم
وكان هذا التكوين كله يخضع لهيمنة نفسية واجتماعية للزعيم ” نلسون مانديلا ” ، مما يبدو أنه أراح “مبيكى ” من العمل الداخلى ليتفرغ لتأسيس حضور جنوب إفريقيا الكاسح على المستوى القارى والعالم الخارجى ، بادئا بغزو الماردين الهندى والبرازيلى IBSA عام 2003 ممهدا لكتلة : ” بريكس” مع الصين وروسيا أساسا عام 2011 ، باعتباره محبا للعمل مع الكبار ..!، بعد ضمان تنسيقه مع ” أوباسانجو” الزعيم المماثل لنيجيريا ، فيما بدا خطة مشتركة بينهما ( نجح فيها مبيكى أكثر من زميله ) لغزو البنية الإفريقية سواء كانت منظمة الوحدة الإفريقية أو الاتحاد الإفريقى . وكان أول النجاح ” لمبيكى ” أنه جاء أول رئيس للاتحاد الإفريقى فى ديربان رغم أنف القذافى (2007) ، بل وعبأ الأنجلو فونيين ضد الفرنكفونيين ليضع ” ديلامين زوما ” وزيرة الصحة ( والداخلية) فى عهده رئيسة لمفوضية الاتحاد ، وهى التى وقفت معه فى معركة ” الإيدز” وأساليب علاجه فى أزمة دولية معروفة …
واتبع ” ثابو مبيكى ” فورا أسلوب الدبلوماسية الناعمة للتسلل إلى مختلف المواقع بالقارة بادئا ببناء صرح منظمة “سادك” التى كادت تتوقف ، وسيطر بها على التجارة والسياسة فى الجنوب إلى حد استثارة مشاعر قيادات أنجولا وموزمبيق السابقين فى النضال الوطنى ومعاونة جنوب إفريقيا قبل ظهور ” مبيكى ” حسب تعبيرات واردة فى كتاب الأستاذ ” أديباجو” ,,ومن موقع ” سادك” فى الجنوب شعر أن التحالف مع ” أوباسانجو” فى قيادته ” للإيكواس” يمكنه من طرح عضويتهما الدائمة – دون غيرهما- فى مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقى ، ولولا مقاومة الأغلبية لهذا الطرح الذى يكشف طموح الدولتين المتنافستين أصلا على مقعد مجلس الأمن الدولى الدائم لافريقيا ، لكانت السيطرة قد اكتملت على الاتحاد …وهو بهذه القوة شكل حماية من الهجوم ” الدولى” على الزعيم التاريخى ” موجابى ” ، حيث مليون من أبناء زيمبابوى فى جنو ب إفريقيا ، وحيث ينفذ سياسة فى توزيع الأرض يحاول ” مبيكى ” حجبها عن الدعاية لها فى بلاده التى لم تقدم جديدا فى هذا المجال … ثم نجح في مصالحة شكلت حكومة ائتلافية في زيمبابوي لحماية ظهره بل وانه منع محاولة بلير لترتيب تدخل عسكري في زيمبابوي عام 2013
ثم راح “مبيكى” إلى ىساحة منطقة البحيرات ! يحل جزءا من صراعات قوي التمرد فى الكونغو الديمقراطية ، ولو بالقوة المسلحة ، ويدخل سلميا فى مشروع سد “إنجا” بمراحله المختلفة ( تكلف 50 مليار دولار) ..ويذهب للتوسط فى مشكلة الصراع بساحل العاج ، ولو منحازا – على غير المتوقع ” لجواجبو” ضد ” حسن وتارا” الذى كان يؤيده الغرب مبكرا ، وهو الوسيط الدائم فى مشاكل دارفور وجنوب السودان ، وعينه على شركات البترول التى تعمل فى البلدين …
وهو يحرك بلاده اقتصاديا فى القارة حتي بعد تركه الرئاسة ، شرقا (كينيا- تنزانيا) وغربا ( سيراليون – ليبيريا ومالى …) باستثمارات تتصاعد من 20 مليار راند إلى 45 مليار مؤخرا فى أنحاء القارة…
ويعتمد “مبيكى ” أيضا فى حركته على بعض أبناء “الدياسبورا ” فكان قريبا من أزمات منطقة الكاريبى ، وهايتى ، ومع “أرستيد ” الشهير الذى قدم له اللجوء السياسى فى بلاده فى تحد ظاهر للموقف الغربى وقتها حتى عاد للحكم .
ادي تاسيس مبيكي لوضعية جنوب افريقيا الدولية ولو بمساعدة غربية ملحوظة الي استمرار توليه مهام دولية هامة ،مثل لجنة الامم المتحدة لبحث تهريب الاموال من افريقيا بين 1970 و 2008 ليجد بين تفاصيل كثيرة انه يهرب 50 مليارا كل عام بينما المساعدات الاجنبية 25 مليارا وان اكبر دول التهريب هي نيجيريا ومصر وجنوب افريقيا بالتوالي…!
حاول “مبيكى ” أن يقترب من الشمال الإفريقى أيضا ، فاقترب من الجزائر حينما شعر بزحف المغرب الملحوظ على مناطق مختلفة من إفريقيا وخاصة الفرنكفونية …ووصل به التحدى إلى تأكيد الاعتراف بحكومة ” بوليزاريو” دعما للموقف الجزائرى الذى تحول ظروفه الداخلية عن الاستفادة من هذا التعاون إلى حد كبير ، وقد كتب عن الربيع العربى فى الشمال ، وما جرى له مقارنا بهدوء الجنوب الإفريقى فى مجال التغيرات الضرورية بالبلاد .
لا نستطيع أن نختم إلا بتأكيد المعنى السابق لأن الحضور السياسى لبلد ما يحتاج لحضور فى مختلف المواقع السياسية والاجتماعية والصراعية بل والفكرية . ولعل ذلك ما جعل الأستاذ ” أديباجو” ينقل عن الموسوعى على مزروعى قوله عن “مبيكى ” :
” انه أكثر نشاطا من مانديلا نفسه فى إنجاز دور جنوب إفريقيا لبناء حركة الوحدة الإفريقية من هاييتى لهارلم ، ومن كنجستون لكنشاسا ،للتوجو، لتومبوكتو …وأصبحت جنوب إفريقيا فى عهد ” مبيكى ” بين قيادات عولمة حركة الوحدة الإفريقية Pan Africanism
.