فصل من رواية( فتنة) لممدوح عبد الستار
ستنشر بدار الخليج للصحافة والنشر بالأرن
عائلة فتوح
قالت الراوية : لن أدّعى – والبينة على من أدّعى – أن “فتوح” ليس له أب، أو عائلة.
قال الراوي : قبعتْ أساطير عائلته ، ومجدها الرفيع في قلبه ، وحفظ روايتها.
وقالت الراوية : عائلته –تجاوزاً لرفع مكانة “فتوح”- حديثة التكوين استقرتْ في البلدة؛ حين تمتعتْ بالأمن والرزق والسلطة في بعض الأحيان. وتناقل أسرارها الأبناء، والعارفون بها ، والمجاملون، والمقربون.
وقال الراوي : أقدار البلاد الواسعة، وموازينها بين أقدام الرجال، وسواعدهم .
وكان دعاؤهم : (بارك اللهم لنا في اللصوص، لولاهم ما حدث ما نحن فيه، ولتغيّر مجرى التاريخ!)
****
لم يجد اللصوص ذهباً، أو فضة، أو خيلاً عربية، أو بهائم؛ فاستأنسوا الأطفال ببعض الألعاب القليلة، وأركبوهم البغال، وكمموا أفواههم بأياديهم المباركة، حتى ابتعدوا قليلاً. كانت إغارتهم مشهودة، وأصبح هذا اليوم كيوم السبت،لا يجوز فيه إلا الحزن. وكانت بالتحديد في الخرطوم، شهر مارس، أمام عائلتي المهدي ورباب..أكبر العائلات، فملكوا ممن ملكوا طفلاً من عائلة رباب، لا يتعدى الثامنة. استغاث بكل صفاء الطفولة التي يعيشها. لم يكن له صدى أبداً..غير أنين مكتوم. وكان نحيبه يعلو فوق شوقه إلى أهله. وآه من نحيب الغربة والمجهول !
مرّ اللصوص الكرام على المستخدمين في الأرض، يبشرونهم بأن الرق للجميع. والأحرار القلائل يقلدون اللصوص الذهب والفضة والنساء. وفرحوا حين امتلكوا ناصية المحروسة، وتابعوها سيرهم حتى رستْ سفينتهم في بلدة الدلجمون، وفي جعبتهم الطفل الأسود”رباب”. هكذا نسميه كما سمي نفسه. “ورباب” بقيهّ بضاعتهم .
حين رآه عبد المجيد الفقى –الذي يملك من الطين ما يسد عين الشمس –انفرجتْ أساريره، وبانتْ أسنانه. ولمّا تحقق من الصبي؛ ضجّ في قلبه شك وريبة، وهاجس يلحّ عليه بقوة لشرائه. شاورهم في بيعه، لم يجد اللصوص مهرباً من بيعه بخساً، ومرغمين.
أسدل عبد المجيد الفقي على الصبي كرماً، وأسبغ نعماءه عليه، واستخلصه لنفسه{ لا تظنوا بعبد المجيد الظنون، كما يظن ندماؤه}.
نشط”رباب”، وازداد كرّه وفرهّ،وبدتْ سواعده كعيدان من حديد صلب؛ تمكنه من ضرب عشرين نفراً، وقد جرّب ذلك مع خمسة أنفار من أحرار البلدة حين تحرشوا به، وعيرّوه: أنه عبد أسود، وليس له أبٌ. صار طوله مترين..عظيم الجثة ترهب المناوئين، والشتّامين، وأصبح خليلاً، ونديماً لصاحب الطين.
حين تلمس الذكرى شغاف قلبه، ويتذكر الواقعة؛ يئن أنيناً مكتوماً، ولا يجد إلا البكاء صدراً يريحه، ثم يلعن كل الآباء{ لو يعرف آباؤنا في أي هزيع يأتي اللصوص لسهروا، ووضعونا في قمقم ، ولظل حالي مع أخوتي} ثم يضحك، ويلقي في روعه اطمئناناً { كلنا مسروقون، رضينا أم أبينا ! ورب ضارة نافعة } ثم يصمت، ويمسح بزيّه الأبيض علامات البكاء حين يلمح عبد المجيد قادماً.
يقال: إن عبد المجيد يملك ثلاثة آلاف فدان، حتى شاع أمره إلي السلطان أو الملك .
علم عبد المجيد بقدوم الدرملى باشا، ففرش الأرض بساطاً أحمر..من موضع الحافلة إلي الدوار، وعلّق الفوانيس في الشوارع. أضاءها بالنهار، وساعد الشمس الخابية، وأظهر كرمه البليغ، وذبح ما يكفي البلدة وضيوفها.
صافح عبد المجيد الدرملى باشا، وقبّل الأرض بين يديه. كان الوقت شديد البرودة. فأمر غلمانه أن يوقدوا التنور.
} فار التنور الذي يقبع رضياً تحت الدوار، وأرسل حرارته في الغرف وعظام الدرملى، ولم يُحدث غباراً أو وهجاً نلمحه، مما تأكد لنا أنه من عجائب الدنيا السبع، ولم يرد ذكّره في الكتب{
انتهى الغلمان والعبيد من التدفئة، وبساط المائدة ممدود، ومملوء بما لذ وطاب.
– أدام الله عزك يا ..
– عبدك عبد المجيد .
– يا عبد المجيد
– أدام الله عز مولانا
كان من نصيب”رباب” أن يقف بجوار الدرملى باشا –ويا له من شرف !- حاملاً الإبريق ليغتسل. مسح الدر ملى باشا يديه بجلباب عبد المجيد، ومسحها في ذقنه، وفركها – وعبد المجيد يتأوه – وطلب من حراسه أن يكملوا الوليمة بجلد عبد المجيد عشرين جلدة، وانتزاع نصف ما يملك، كما أمره الملك.
حين همّ الحراس بتنفيذ الأمر الملكي، وعلامات الضيق بادية على الوجوه، إلا الدرملى باشا؛ وقف “رباب”شاهراً سوطه. اندهش الدر ملى باشا، وأعلن أن العبيد يقاومون الملوك، فلما لم يجد صدى أو خوفاً لدى رباب – وجثته عظيمة ترهب الملوك – أعلن هدم هذه الناحية{ ولسنا نعرف غضب مولانا المعظم،حين استخفّّّوا بأمره} وهاصتْ البلد بالفرحة، واختلط العبيد والأحرار، وفرح عبد المجيد، وقرّب إليه”رباب”، وأغتم كثيراً، وبدتْ دهشته وريبته واضحة. ساعتها قال” رباب” :
– أفديك أنا، وابعد عن الغمّ، وقل: عبد تطاول على أسياده
عانقه عبد المجيد بحرارة، وبكى .
– وهبتك مائة فدان
– لا . يكفيني رضاك، والأكل، والشرب
قالها”رباب” تعففاً، فهو يعرف سرَ الأفدنة الكثيرة، وسرَ عبد المجيد في بئر عميقة. صحيح أنه العمدة ، والآمر الناهي، لكنه ضعيف، وهو يعرف ذلك من عيني” رباب”، فقد نزح أبوه من المغرب، واستقر بين ظهورنا، ينعم ويشرب، وجعل خليفته عبد المجيد، وقد كان حسن السيرة، جميل الطلعة، شاف فتاة من عائلة ماضي– وكانوا أسياد البلدة، ويملكون كل الطين – فتزوجها. ماتت؛ فورث مائة فدان، وتزوج أختها، وجعل لها السم من نصيبها، والمائة الأخرى من نصيبه، وتزوج من الصغرى حتى امتلك خمسمائة فدان. تودد للمأمور، وللسلطة، حتى أصبح العمدة.
تزوج “رباب” من دار شلفوطة، ورَزَقه الله عيالاً يخلفونه في عمله، ويستأنس بهم، وينسى بعض أنينه المكتوم، وشوقه إلى أهله، وسمي عياله بأسماء أخوته، وتوالدوا كما الأرانب، واستقر بهم المقام، وأصبح لهم اسم، وعائلة، وشرف، ومجد لا ينكره إلا الجاحد.