خرجوا للحرب ولم يعودوا .. الأهالي لازالوا يحلمون بعودة أبنائهم!
مطالبات بعمل مدارس أو مساجد بأسمائهم تخليداً لورهم في الحرب أسوة بغيرهم
الأقصر – نرمين نجدى
مع ذكرى احتفالات عيد تحرير سيناء، الذى يوافق 25 أبريل من كل عام، وفى محافظة الأقصر جنوب مصر التى شارك الكثير من أبنائها فى الحروب التى مرت على مصر فى القرن الماضى، منهم من عاد سالماً لأهلة، ومنهم من استشهد أو فقد تماماً، ذهب ولم يعد.
فى رحلة بحثنا عن مفقودي حرب أكتوبر من أبناء محافظة الأقصر، حاولنا الحصول على بيان رسمي من القوات المسلحة، حيث توجد المنطقة الجنوبية بالأقصر، لكن تعذر الحصول على بيان رسمي نظراً لاعتبارها بيانات سرية ولطول المدة، وأيضاً للتغيير الإدارى الذى طرأ على حدود محافظة الأقصر ومراكزها التى كانت تتبع محافظة قنا حينها.
لكن هناك مصدر بالأقصر زودنا باسمين هما “جابر فرج الله حسن”، وجابر أبو الفضل قناوى، وهما مجندنان من مدينة أسنا ، ذهبنا للبحث عنهما بمركز إسنا والذي يبعد نحو 60 كيلو متر جنوب الأقصر، لم يستدل عليهما أحد، نظراً للكثافة السكانية وتغيير التركيبة السكانية هناك.
من هنا بدأت رحلة البحث الميداني عن أهالي مفقودين فى حرب 1973، وكنا كلما ذهبنا لمجند نكتشف أنه شهيد وليس مفقود، وبعد صولات وجولات تم الوصول إلى أسرتي مجندين مفقودين، هما “سيد عباس أحمد إسماعيل”، و”صلاح العادلى حامد عبيد”.
الأول هو “سيد عباس أحمد إسماعيل: والذى يقطن أهلة بعزبة الناظر التابعة لنجع قباح شرق بندر الأقصر، قابلت (الخبر) فى الطريق شخصاً سألناه عن منزل “حمودة عباس” شقيق المفقود فى حرب 1973، وبالمصادفة يكون هذا الشخص هو ابن عم المفقود، والذى اعتقد فى البداية أن ابن عمه مازال حياً، وأننا نعلم شيئاً عنه.. الأهالي لازالوا يحلمون بعودة أبنائهم!
التقينا شقيقه “حمودة” سائق بالمعاش، وقال: “فى البداية نحن عائلة خدمنا الجيش المصرى، فأنا كنت مجند فى فترة 1967″، وحكى لنا عن شقيقه سيد، والذى كان يتبقى له أيام لينهي فترة خدمته فى الجيش، لكن الحرب اشتعلت على الجبهة.
المفقود من مواليد 1951، حاصل على الدبلوم الفنى الصناعى، وعمل لفترة قصيرة، ودخل بعدها الجيش لقضاء الخدمة العسكرية، فى سلاح الصاعقة، وكانت وحدتة فى منطقة الهرم، وكان أعزب، وله من الأشقاء “6” وهم محمد وبدوى واحمد وحمودة وسيدة وتفيدة.
يقول حمودة: “بعدما انتهت الحرب كل المجندين فى القرية والقرى المجاورة عادوا إلا سيد، الأفراح كانت فى كل القري والبيوت، إلا منزلنا، قال لنا أحد زملائة المجندين أنه كانت هناك مهمة لسبعة طائرات خلف العدو فى سيناء، خرج فيها ولم يسمعوا عنه شيئاً بعد ذلك، والده ذهب للسجلات العسكريه فى العباسية، وقابل صول بالجيش وأخبره أنهم لا يعرفوا شيئاً عن ابنه المفقود”.. وهنا يحكى “أحمد نبوى عبد العزيز” أبن شقيقة المفقود، أن جدته لأمه بكت حتى الموت عن ابنها الذى لم يعرفوا عنه شىء، وعاشت على أمل واحد فى الحياة ألا وهو عودة ابنها الذى فُقد فى الحرب، إلى أن توفيت عام 1986، ولحقها والد المجند المفقود فى عام 2002.
أكمل ابن شقيقة الشهيد: “أسرته تشعر بالظلم فلا توجد مدرسة باسمه ولا شارع فى القرية يخلد ذكراه، رغم أنه على مقربة من قريتهم توجد مدرسة باسم الشهيد “سيد زكريا” الملقب بأسد سيناء، هل لأنه شهيد رسمي وتم العثور على جثتة؟!، لكننا نحن أسرة المفقود سيد الذين لم نعرف له مكان ولا قبر نذهب للترحم عليه فيه، لا يوجد شيىء يشفي غليل صدورنا، سوى أن شخصاً شاهد اسمه فى النصب التذكارى للشهداء فى محافظة قنا، نحن نسمع عن كرمه وشهامته من أخوالنا وخالاتنا ونحن نكمل المسيرة ونحكى لأبنائنا عنه وسنظل نحكى لأحفادنا”.
هنا قال شقيقه حمودة مرة أخرى، “كان باقي له 40 يوم للانتهاء من خدمته العسكرية وقامت الحرب، وتعبنا من كثرة السؤال عنه، وبعد 5 سنوات تلقينا جواب من القوات المسلحة بأنهم لم يستدلوا على جثته واعتبروة شهيد، وهنا اضطررنا لعمل جنازة، وتلقي العزاء، بعدما كانت ترفض والدتنا عمل جنازة له، وتلقى والدينا معاش انقطع بموتهم، ولكننا لم نحصل على أية مزايا، لم نحصل على أى تكريم من القوات المسلحة فى أى مناسبة، ولا تكريم يليق بشخص ضحى بحياته من أجل هذا الوطن.. نريد شىء يخلد ذكراه فهو خرج من الدنيا بلا أبناء، وكل ما حصلنا عليه هو معاش القوات المسلحة الذى انقطع بوفاة الوالدين”.
وأضاف، أنهم تلقوا عرض من مجلس المدينة التابعين له بالتبرع بقطعة أرض ليتم بناء مسجد باسم الشهيد، “من أين نتبرع بقطعة أرض لذلك الغرض، أليس من حق الدولة تكريم أبنائها الأبطال؟”
ألتقطت سيدة عجوز أطراف الحديث، اكتشفنا أنها خالته، وتدعى فتحية عبد الكريم، والتى حكت عن نبل أخلاقه وشهامته وبنيته الفتية التى جعلت منه مجنداً بالصاعقة: “كان كلما أحضر هدايا لوالدته، أحضر لي وكان يعاملني مثلها، وكان يستعد لتجهيز منزله، وكنا نبحث له عن عروسة، لنفرح به وبذريته، خاصة وأنه عمل قبل ذهابه للجيش فى شركة بالقاهرة، انتدبته للعمل فى السد العالى بأسوان، حيث كان يعمل فني لحام كباري، ولكن علاقته بالشركة انتهت بعد وفاته فى الحرب، رغم أننا كنا نجدد له حفظ الوظيفة كل عام، على أمل العودة، لمكوثه بالجيش 7 سنوات”.
وقالت نجاح كامل ابنة عم المفقود: “كان (سبع الرجال) وجميل الشكل، كان يحب أهل البلدة وهم أيضاً يحبوه، وكان يجلب لنا من أسوان الأسماك والحلوى، وكان والده رحمه الله، يعمل مزارع وكذا أشقائه مزراعين، وهو تعلم وعمل وتجند بالجيش، وكان كلما نزل فى أجازات الجيش يبعث فينا روح الأمل والانتصار، وإن العدو سيقهر فى القريب العاجل، وتحققت أمنيته فى العبور والنصر، ولكنه هو لم يفرح بهذا النصر، أكثر شىء يضايقنا أننا لا نعرف عنه شىء، وأين أراضيه ولكننا سلمنا أمرنا لله”.
إلى هنا انتهت قصة “سيد”.. لكن عائلته رغم مرور أكثر من 40 عام على فقدانه، لن تنساه، وستظل تحكى تاريخه لأبنائهم.
حكايات الغريب
وفى منطقة أبو الجود التابعة للكرنك بشمال مدينة الأقصر، كان لنا موعد مع أسرة الفقيد الثاني، وهو الشهيد “صلاح العادلي حامد عبيد” المفقود الثانى من الأقصر فى حرب 1973، وهو مجند بالرادار بسلاح الجو، ولد عام 1948، وحصل على دبلوم معلمين بنظام الخمس سنوات، وكان يعمل مدرس ابتدائي، وكان خاطب ابنة خالته قبل أن يذهب لأداء الخدمة العسكرية، وله من الأشقاء خمسة، 3 ذكور، و2 إناث.
التقينا شقيقتيه الكبرى سليمة والصغرى زينب واللتان قالتا: “صلاح كان جميل الخلق والخلقة، ذهب للتجنيد عند وفاة جمال عبد الناصر، أى فى سبتمبر عام 1970، وعندما هبت الحرب لم نسمع عنه شيئاً، كل زملائه عادوا إلا صلاح، انتظرنا عودته لكنه لم يعد.. ذهبنا لزملائه فى الجيش، وهم من مركز قفط التابع لمحافظة قنا، كنا نعرفهم لأنهم كانوا يحضرون معه هنا فى الأجازات، فى البداية، حاولوا التهرب مننا وبعد تضييق الخناق عليهم قالوا لنا أنه فى أثناء ثغرة الدفرسوار كنا متواجدين فى خنادقنا العسكرية، شاهدنا اليهود قادمين إلينا من كل حدب وصوب، كل مجند حمل سلاحه محاولاً الهرب إلى مصيره المجهول، ومن كان يختبىء منا فى الجبال كانت طائرات العدو تحصده، وقبل أسرنا فى الثغرة وجدنا جنود مقتولين لم نجد صلاح بينهم، ولم نجد له جثمان، ولم نعثر عليه تماماً”.. “سمعنا رواية أخرى، أنه ذهب من الجيش الثالث إلى الجيش الثانى، ورواية ثالثة، تقول أن اليهود كانوا يخطفون الجنود المتعملين فى الأسلحة الهامة، بعد وضع عصابة على أعينهم”.
وأضافتا: “بعد 5 سنوات الجيش اعتبره شهيد نظراً لعدم الاستدلال على جثمانه، وأرسلوا لنا خطاب بذلك، طرقنا كل الأبواب للوصول إلى أية معلومة، ولم نعثر على معلومة واحدة تفيد ما إذا كان على قيد الحياه أم استشهد، ذهبنا للشيخ موسى أبو علي، وهو مقام صوفي فى الكرنك فى مدينة الأقصر، والذى قال أنه حى يرزق فى الشام فعادت شقيقته الكبرى سعيدة لتخبر والدها أنه حي، والمقصود بالشام هنا تل أبيب وأنه أسير وهو ما فسره الشيخ فيما بعد.. ومنهم من قال أنه شاهده فى السودان، وهناك أشخاص من الأقارب والجيران كانوا يحضروا لنا ويقولون أنهم شاهدوه فى أحلامهم يرتدى ملابس بيضاء ويجلس على سرير وأمامه طريق طويل.. إلى ان تعبنا من كثرة السؤال عنه، وكنا لا نعرف هل نقرأ الفاتحة على روحه؟، هل هو حي أم ميت؟” “حزنا جميعاً عليه، وحزنت أمنا حزناً شديداً عليه، وحرمت على نفسها متاع الدنيا، واتشحت بالسواد، وبكت حتى كادت تصاب بالعمى، وتوفت عام 1991، وكذا والدي، ولكننا تيقنا من موته لأن والدتنا كانت تقوم بالنداء على صلاح وهى فى سكرات الموت، وتقول له تعالى خذنى إليك، وهى بالطبع لا تشعر بما تقول فتيقنا جميعا أنه شهيد فى الجنة وينتظرها”.
أكملت شقيقته: “كان والدى يتقاضى راتبه من المدرسة كل شهر ويرسله له أثناء فترة تجنيده، واستمر ذلك الوضع حتى بعد فقدانه، إلى أن تلقينا خطاب القوات المسلحة فى أواخر السبيعينات، فانقطع معاش المدرسة وبدأنا فى الحصول على معاش القوات المسلحة لوالدينا رحمهما الله، وكان والدى يضع تحت (مخدته) آخر جواب أرسله له صلاح، والذى يشكر فيه والدي على تعبه وتكبده إرسال راتبه كل شهر وذهابة للمدرسة واستلام المستحقات الماليه، وحتى وفاته كان يقرأ ذلك الجواب يومياً .. ويبكى على صلاح”.
ومن أسرة الفقيد التقينا زوجة ابن شقيقته، والتى قالت أن زوجها دائم الحكى عن خاله البطل الذى ضحى بحياته فى سبيل الوطن، وكيف أنه كان براً بوالديه وأنها تستمع من عائلة زوجها عن أخلاقه وكرمه، وأنه كان يشترى لهم الآيس كريم وهم صغار ويعيطهم نقوداً كثيرة جدا، وكان والده موظفاً بالسنترال وأشقاؤه يعملون بوظائف مرموقة فمنهم مدير البنك والمهندس والمحاسب.
ورفضت الأسرة عمل جنازة له، لأنهم مازالوا إلى الآن يشعرون بأنه حي، وسيعود يوماً ما ويحكي لهم عن بطولاته مع العدو الصهيونى.
التقينا ابنة خالة الشهيد، وتدعى أنصاف محمد حسن، والتى كانت مقيمة بالسويس وقت الحرب، وحكت أنها فى طفولتها سمعت خالها يحكى لوالدتها أنه هناك ناس التقوا مجند متأثراً بجراحه على جرف أحد الترع التى قام اليهود بتجفيفها، وأخبرهم أنه من الأقصر وأوصافه تنطبق على صلاح، وحاول المدنيين مساعدته إلا أنه قال لهم: “ليس لكم شأن بي اهربوا قبل أن يأتي اليهود ويأتوا على الأخضر واليابس.. انجوا بحياتكم، وأنا من المؤكد سيأتى زملائي لتضميد جراحي وأخذي لوحدتي”، وهرب الناس وبعد أيام عادوا ولم يجدوا الجثة، وأخبروا خال صلاح بتلك الواقعة، وحاولوا البحث، ولم يجدوا له أثر.
وتذكرت شقيقته سليمة – بدموع الحسرة والألم، والتى تصغره بنحو 7 سنوات: “كان من حنيته يرفض النزول للعب حينما تذهب والدتي لزيارة أهلها، بل كان يجلس بنا ويأخذ باله مننا ويقوم هو بدور الأم ويطعمنا، كنت أشعر أنه تؤأم روحى ولا أشعر أنه يكبرنى وكان لا يبخل بالنصيحة.. تعبنا من الروايات المختلفة التى سمعناها من أشخاص عدة عنه، صلاح من جماله وانبهار الناس به، كنا لدينا أحساس أنه ابن موت، فهو ملاك بحق، لا يغلط فى أحد، ولا يعامل أحداً بشكل غير لائق، ولم يحدث أن تلقينا شكوى منه أبداً”.
ختمت عائلة صلاح أنهم لا يريدوا أى شىء من الحكومة.. لا أموال ولا تعويض.. وكل ما يريدون معرفته هو أين صلاح!