أدب الرسائل بين الأدب وقلة الأدب
تباينت الرسائل الأدبية بين البوح بمشاعر صادقة نبيلة تتسم بالرقة والرقي، وبين المجاهرة بالرغبات المكبوتة لدى كاتبها، تلك الرغبات أججت رغبات لدى بعض مِن مَن قرأها، وعملت على هياج عقلي لديهم، وأشعلت داخلهم رغبة جامحة لاهثة خلف الفضائح.
الفضائح هنا لا يقصد بها الأفعال المشينة فقط، بل هو رغبة البعض في كشف المستور، وإفشاء الأسرار والمجاهرة -والمتاجرة في بعض الأحيان- بتلك الأسرار، فيعتبر أدب الرسائل هو الأدب الرائد في كشف ما تختلجه الصدور وتعرية لما في القلوب، سواء كانت رسائل غرامية أو اجتماعية أو حتى سياسية، فالرسائل بكل أطيافها تحمل علاقة خاصة بين الراسل والمرسل إليه، حتى وإن كانت رسالة تهديد ووعيد.
ولعل أشهر تلك الفضائح -إن جاز التعبير- تلك الرسائل التي نشرتها الكاتبة غادة السمان على لسان أنسي الحاج ومن قبله غسان كنفاني بعد وفاتهم، فقد نشرت رسائلهم إليها، دون أن تنشر ردها عليهم، بعد أن فقدوا حق الرد عن أنفسهم، ونزعت غادة منهم حق أصيل لهم؛ وهو تقرير مصير رسائلهم بين النشر والطرح بين الجمهور، أو الاحتفاظ بخصوصية مشاعرهم وحميمية علاقتهم بينهم وحدهم.
لم تكن غادة الكاتبة الوحيدة المحاطة بمن يخطب ودها ويتمنى أنسها، فقد سبقتها مي زيادة، الأديبة التي أثرت أدب الرسائل برسائل المغرمين بها، كانت مى محط إعجاب ومصدر إلهام معظم مفكري وأدباء جيلها، وكان أكثرهم جبران خليل جبران، وكانت تبادله الغرام في رسائلها له، وبجانب جبران لم يسلم من سحرها الآخاذ كلًا من العقاد والمنفلوطي والرافعي، ذلك الأخير يعد من أعظم من كتب رسائل فقد ترك لنا أرث غني، كرسائل الأحزان التي يبث فيها شجونه وآلامه وينسج منهم خطابات غاية في العذوبة.
في الغرب أيضًا كانت رسائل نابليون بونابرت لزوجته جوزفين تفيض بقدر كبير من إفشاء لبواطنه، فقد أزاحت الستار عن ذلك المحب الحنون الذي يسكن بداخل القائد العسكري الجبار، وإن كانت قد كشفت أيضًا عن رغبته الجامحة لزوجته والتي وصفها وصفًا صريحًا يخلو من أي حياء أو خجل، قد يكون هذا هو سبب شهرة رسائله، حيث كشفت عن الوجه البشرى الشهواني المعذب بالبعد عن الحبيبة داخل الأسطورة الحربية نابليون بونابرت.
غير أن كانت هناك رسائل كانت تحمل بعد إنساني يتحدث أصحابها عن علاقتهم بأنفسهم أكثر من علاقتهم بمن يرسلون إليهم، مثل رسائل كافكا لميلينا، كان كافكا يتحدث عن نفسه عن مشاكله ومشاكل النفسية، ونزعته الاكتئابية، فدا أنه يحاور نفسه في شخص ميلينيا، والتي كانت جزء من اضطرابه حيث عانى فترة من فتورها وإهمالها له ولرسائله.
إن كانت الرسائل لا تحمل الطابع النثري فقط، فقد كان هناك رسائل شعرية تحمل نفس الطابع الخاص والألفة بين المرسلين، وكانت رسائل ولاّدة بنت المستكفي و ابن زيدون من أعظم المراسلات الشعرية إلى وقتنا هذا، وتألق أمير الشعراء أحمد شوقي ونزار قباني في هذا النوع، ومن قبلهم مجنون ليلى قيس ابن الملوح.
لم يقتصر أدب المرسالات على الرسائل الغرامية فقط، فقد كتبت رسائل في شتى المواضيع، فالرسائل في العموم كانت وسيلة التواصل بين من يفرقهم المكان والزمان، فقد كتبت رسائل إجتماعية بين مفكرين، ورسائل ذات الطابع السياسي مثل “نوبة الحراسة” التي ناقشت الأوضاع في السيتينات من القرن الماضي، وما كان يواجه المجتمع من تغيرات جذرية سياسيًا واجتماعيًا.
من أهم ما قدم في أدب الرسائل؛ رسائل الحرب تلك التي أرسلت من المجندين إلى زويهم، تلك الرسائل التي كانت تمثل الحياة الحقيقية المحارب لما ينقل فيها كل مشاعره وأحاسيسه، وتفاصيل حياته الجدباء داخل الثكنات العسكرية، في الوقت ذاته تروي تلك الرسائل ظمأ الأهل وترد فيهم الروح الغائبة بغياب أبنائهم.
سيظل أدب الرسائل هو اصدق أنواع الأدب في رأيي، حتى وإن اختلفت وجهات النظر حوله، بين ما يراها أدب خالص، وبين ما يبحث داخلها عن فضائح أو أسرار مخفية، ذلك لأن الرسائل حينما كُتبت سطرت حالة خاصة مليئة بمشاعر حقيقية، وكان الهدف الرئيسي لكتابتها هو إظهار حقيقي للوجه الإنساني وللروح الهائمة التي أنهكها الشوق وأتعبتها الحياة بتفاصيلها، بعيدة عن كل البعد عن التكلف والاستعراض اللغوي الذي تعج به باقي ألوان الأدب.
مريم أحمد