نعيش واقعا يقاتلنا يوماً بعد يوم! .. في بلد يصارع _ اجتماعيا _ الكثير من الظروف والمواريث المختلفة من المعتقدات العنصرية والأحكام العرفية والخبرات السابقة والمناخ الجنوني الذي بات يسيطر على كل شيئ حولنا.
ما من ثوابت حاكمة .. ولا قواعد ملزمة .. صار التمرد عنواناً للمرحلة يتفاخر به الجميع .. ما بين تحديات وخيبات وتوقعات قد تحدث أو لا تحدث ونجاحات مأمولة تتطلب جهداً ومعافرة تأكل العمر والأعصاب، لكننا نبذلها عن طيب خاطر في سبيل ذاك الهدف الذي يضعه كل منا أمام عينيه.
ندخل تجارب، ونشغل في كل تجربة دوراً من الأدوار .. نبذل كل ما يمكننا كي تنجح التجربة.
منا من يبذل اتقاء الإخفاق والفشل ونصب عينيه من أسميهم «المراقبون»، ممن يعيشون بمحيط كل منا من أشخاص، ويسقطون تفاصيلهم الشخصية والحياتية ويتفرغون تماماً لمراقبة الآخرين، باذلين كل الجهد في تحليل سعيهم وتجاربهم والحكم عليهم طوال الوقت، واضعين الكثير من الضغوط على من يضعه حظه العثر في طريقهم.
ومنا من يبذل عن حب ورغبة حقيقية في النجاح وفي الوصول لهدفه والاستمتاع بثمار هذا النجاح وذاك الجهد.
وكأي تجربة كونية تُخاض .. تنجح تارة وتخفق أخرى .. يصل البعض والبعض يتعثر ويكمل، والبعض لا يصل أبداً.
ما إن يطل علينا الإخفاق طلته الكريهة حتى تنهار أمامه أعتى النفوس يقيناً وتماسكاً وصلابة، فما من أحد يستسيغ ذلك الإخفاق وتلك العواقب التي تتبعه، ولا سيما في مجتمع يعشق جلد الذات، وأزعم أنهم يعشقونه عشقاً مجرداً منزهاً عن أي غرض أو هدف قد يؤتي ذلك الجلد بثمار له!
هو جلد فقط .. لا أسباب بالضرورة فمن اليسير اختراعها، ولا أهداف له، ولا شيئ محقق منه!
ما إن يطل الإخفاق حتى يبدأ صاحب التجربة فى تحضير كل أنواع السياط حتى يجلد ذاته، ويترك كل المحاولات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه أمام شهوة جلد الذات التي أدمنها الجميع إلا من رحم ربي .. ويشترك مع صاحب التجربة جميع من حوله، ناصبين له المحاكم ومنقلبين لمحللين اجتماعيين ولاستشاريين في العمل والأسرة حسب نوع الإخفاق ونوع التجربة!
الجميع يحلل والجميع يحكم والجميع يسدي النصائح وإن لم تُطلب منه! .. والجميع بالطبع يمارس الضغوط في دائرة عجيبة يسلم كل من فيها الدور للآخر حين يأتي دوره المحتم في الإخفاق! فكلنا بشر ولا أحد فوق الإخفاق وإعادة المحاولة، فاليوم أخفقت أنا وبالأمس القريب كنت أنت يا صديقي! وبين كل ذلك يقف صاحب التجربة موقفاً نفسيا غريبا من نفسه .. يتحدد بحسب شخصيته وخلفياته ونوع الخبرات الحياتيه المتراكمة التي قد يكون قد مارسها يوماً ما.
في الغالب تكون الصدمة في البداية .. يصحبها نوع من الإنكار والاستكبار الشديد .. والرفض لما ألمً بنا من وجع!
في تلك المرحلة التي يعلق بها الكثيرون لفترات طويلة، يجترون فيها آلامهم مرات ومرات، ويرفضون ما حدث في عقولهم، رافضين التزحزح أية خطوة خارج تلك المنطقة النفسية الخطرة، والتى أرى أنها مرحلة لابد لكل من أخفق بتجربة أن يمر بها فهو أمر طبيعي .. لكن السقوط في بئر الاجترار والنكران وتكرار مفهوم «كيف يحدث ذلك لي أنا؟!»، هو هلاك محقق للأعصاب ودمار نفسي لا يشعر به الشخص إلا بعد مرور فترات من الزمن، يكتشف معها أنه قد رسخ بداخل نفسه _ وبنفسه _ مشاعر سلبية ملؤها النكران وعدم المنطقية، فنحن بشر طبيعيون كما هو مفترض، وقد يلم بنا أي عرض قد ألم بمن سبقونا ومن يعيشون حولنا.
إذن فالسؤال هو، «كيف يحدث ذلك لي؟!» لا محل له من الإعراب، فقد يحدث لأي شخص أي شيء في أي وقت .. لا يمنع الطيبين طيبتهم من غدر الأشرار، ولا يمنع المتدينين تدينهم من السقوط في الخطايا ولو لمرات قليلة .. ولا يمنع العلماء اللامعين من أن يمرضوا ويحتار زملاؤهم في مداواتهم .. فنحن بشر إن اقتنعنا بذلك هوننا علينا الكثير والكثير من ألم الصدمات الأولية، الذي قد يستمر لفترات طويلة معوقاً ومانعاً إيانا من الاستشفاء من التجربة أيا كانت.
نخطو بأقدامنا مدفوعين بإرادة الصدمة والانكار والحزن على الذات، نحو الكثير من المشاعر التي في الغالب تكون سلبية طبقاً لمؤشرات المجتمع الذي نعيش فيه، فنجد تعميم من صاحب التجربة بأن كل التجارب سيئة وكل الاشخاص لا تؤتمن جوانبهم في تلك الحياة، فإن غدرت «سميرة» بأحدهم أو أخفق في تجربته معها أو رأى من تلك الشريكة ما يكره، أصبحت كل الشريكات «سميرة»، وكل النساء مثلها يمتلكن ما تمتلك من مسببات لسقوط أي تجربة مستقبلية!
ويرى من خانه صديق أو قريب أن الصداقة قد انتهت، وأن كل الأقرباء أفاعي وأن كل الحياة هراء وعبث!
كذلك من تعرض لمتاعب بمحاولاته العملية الأولية قد تجده قد كفر بتلك المحاولات، وقرر الكف عنها متجاهلاً مؤشرات التعلم القوية التي قد يكون قد خلص من تجربته بها والتي قد تؤهله لاحتمال كبير للنجاح بالمرة القادمة!
يختلف هنا كل منا عن الآخر في البقاء في منطقة النكران و(الولولة) .. فمنا من يستسلم ويستمرئ مساندة من حوله .. راكناً لتلك المنطقة الآمنة والمريحة comfort zone ورافضاً وبإرادته الخروج منها .. مستنفذاً يوماً بعد يوم طاقة من حوله في الاحتواء والحب والطبطبة وحل المشكلات وإزالة العوائق وصولاً لتولي الأمر كلية عن الشخص صاحب الأزمة .. ومنا من يستمتع بتلك المساندة ويحمل على كتفيه جميل هؤلاء الاستثنائيين الذين حملوا عنه وزر أزمته يوماً ما، ثم يبدأ في التعامل والسعي ولو ببطء يحسب له في اتجاه بصيص نور يراه في نهاية نفق التعافي، ساعيا ولو ببطء في اتجاه الخروج والعودة للحياة كشخص طبيعى كما كان .. لا .. أفضل بالطبع كثيراً مما كان عليه .. فالآن لديه من التجربة ما يجعله مختلفاً .. أقوى .. أفضل .. أحكم .. وأصبر على من حوله .. يبتسم في معرفة وحكمة لدى تهور المتهورين ولدى كِبر المتكبرين ولدى ضعف الضعفاء .. يبتسم ابتسامة العالِم لما سيحدث غدا لمن أمامه فهو لا يتوقع بقدر ما أنه رأى بالفعل تجربية مماثلة.
إن الاكتفاء من فترة الانهيار والرثاء للنفس وقرار العودة للحياة لهو أمر جلل.
لا يستطيع تحمل المرور به إلا العظماء أقوياء النفوس .. إلا الأبطال .. المؤمنين بأنهم يستحقون غد أفضل وفرصة ثانية للحياة
إن المطالبة بفرصة ثانية من الحياة والإصرار على الحصول عليها عدلاً وحباً وطمعاً ورغبة في منح أنفسنا ما لم نستطيع الحصول عليه لدى تجاربنا السابقة، لهو أمر واجب على كل مصدوم ومأزوم وموجوع ومخدوع .. فالحياة لا توقظنا من النوم لتوزع علينا منحاً مجانية من الفرص الثانية ومن الأيام الرائعة السعيدة .. فتلك خرافة وهراء لا يصدقه أحد .. لكننا نركض خلف تلك الفرصة متشبسين ورافضين وبشدة أي إخفاق وأي سقوط وأي وجع لا نستحقه من تلك الحياة .. رافضين وليس مستسلمين .. ساعين نحو تلك الفرصة وليس مستمرئين مساندة من حولنا بزعم ضعفنا وخواء أنفسنا .. آخذين كل الطرق الممكنة وخالقين طرقاً ومسالك جديدة لنا ولمن حولنا في اتجاه الغد المنشود والهدف المرجو من رحلتنا.
تأكل منا تجاربنا ومحاولاتنا أياماً وربما سنين .. تستنفذ حسب طبيعة كل منا مشاعر وأحاسيس .. تميت رغبات وتحيي أخرى.
منا من يترك تلك التجارب لتطبع على روحه طابع الوهن وقلة التحمل وقلة الحيلة للأبد، ناهياً حياته النفسيه بيده وإن طال عمره إكلنيكياً .. ومنا من تزيده شراسة ورغبة في الحصول على تلك الفرصة الأخرى والنجاح وإثبات الذات.
منا من يرى الجميع «سميرة» فيمتنع عن خوض المحاولات والتجارب مرة أخرى .. ومنا من يأخذ وقتاً قد يتخبط به وبشدة .. لكنه يصل في النهاية ويتعلم ويدرك أن ما مضى قد مضى وأنه ليس بالضرورة سيكون كما هو آت، عالماً أن في الغد الذي أراد الله أن يمنحه إياه فرصة مختلفة وربما أفضل .. فليسوا جميعا كما كان يظن «سميرة»!
منى عبد العزيز
12 سبتمبر 2018