هل التعليم غاية أم وسيلة؟
لطالما راودني هذا السؤال، وبحثت له عن جواب شافٍ، فما وجدت، لكنه في الآونة الأخيرة شرع يُلِحُّ على عقلي ناهرا إياه أن هلا داويت فضولي؟
أسكنُ في حيٍّ هادئٍ أكثر ما كان يميز قاطنيه خفوت أصواتهم، وصفاء ملامحهم، لكن ما أثار فضولي اليوم هو صخبٌ يقبع خلف الأبواب، وتوتر وتشنُّج يعتري ملامح الصغار قبل الكبار.
تساءلت واستقصيت حتى عرفت أن وراء كل بابٍ طفلا يستذكر دروسه وأبا مترصدا متربصا، وكذا أمًّا تراقب شزرا ويكأنه فأر للتجارب.
يعود الولد من درسي الكيمياء والفيزياء ليجد معلم الرياضيات بانتظاره في البيت حاملا ميقاته الحسَّاب كي لا يزيد عن مدة حصته دقيقة، معذورٌ هو؛ فمازال خلفه الكثير من الطلبة أمثاله بانتظاره.
كل هذا قبل الموعد المحدد لبدء العام الدراسي بشهرين وربما أكثر، أي أن ذاك المسكين وأبويه لم يهنأوا بإجازةٍ صيفية تنفض عنهم عناء عامٍ دراسيٍّ مضى وتمكِّنهم من الاستمرار في عامِ شقاءٍ قادم.
في ظل هذه الموجة العارمة من الغلاء، بديهيٌّ جدا أن تتناسب مصروفات المدارس الخاصة والدولية وكذا الدروس الخصوصية ومستلزمات المرحلة التعليمية والزي المدرسي طرديا، وهو أقل ما يجب؛ واضرب كل هذا في عدد الأبناء، وزِدْ إشفاقا على حال الأبوين.
ومن السَّخَف الذي يدعو للامتعاض مع المجاملة دون مبالغة، أن نتنافس نحن المطحونون من الآباء والأمهات في المزايدة على بعضنا البعض في نوع المدرسة ومستوى التعليم الذي سيودي حتما إلى قصم ظهورنا وزيادة العبء على كاهل أبنائنا، ولا رشيدٌ بيننا يهمس بأن اعقلوها وتوكَّلوا.
ألا رأفةً ورحمةً بأجيال دمرها تحجُّر وعُقْم أفكاركم؟
ألا أنهيتم معارك ضاعت أعماركم وأعمار فلذات أكبادكم في غمارها؟
هلا تنحَّيتم على جانب معركة التعليم الدائرة رحاها وأعطيتم لأنفسكم فرصةً واستجبتم لأصوات ضمائركم؟
بالرغم من أن تبعات هذا الماراثون سيحظى الأبوان منه بنصيبٍ وافرٍ من الخسائر سواء مادية أو نفسية أو مرضية، إلا أنه ليس بقدر من الأهمية لديَّ، خاصةً وأنهما المذنبان في حق الجميع، لذا قد آلَيْتُ على نفسي الدفاع عن حق الضعيف، وليس أضعف من الطالب هنا الذي لا حول له ولا قوة.
مجبرٌ هو على تحمُّل عصبية والده، وصراخ والدته اللذيْن كثيرا ما يتشدَّقان ويبرران تصرفاتهما على أنها ليست إلا لمصلحته.
فهلا سكتُّما؟
مجبرٌ أيضا على السكوت والاستسلام لمدرسةٍ ومدرسين ووزارة من المفترض أنها للتربية قبل التعليم ونظام تعليمي عقيم يتعاملون معه وذويه على أنهم مجرد آلات، أجهزة استقبال، لا تمتلك حتى حق اختيار ما تدرس أو التفاعل معه.
نظام نسي دوره في التعامل مع عقولهم، فقضوا معظم حياتهم في استذكار دروس قديمة عفت عليها الأزمان وما عاد لمثلها في العالم مكان، لا تغني ولا تسمن ولا تواكب عولمةً نحن عنها أبعد ما يكون، ولا يبقى في عقولهم بعد تفريغها في مفرمة الاختبارات من أثر.
مجبرٌ هو على حمل حقيبةٍ تضاهي وزنه، وقضاء وقتٍ طويلٍ بين أربعة جدران لو مرَّرَتْ بصيصا من أكسجين تمنعه عنه عشرات الأنوف التي تنتظر؛ حيث الفصل يحوي أضعاف أضعاف سعته التي صُمِّمَ لأجلها ولو كان للفصل صوتٌ لسُمِعَ أنينه مدويًّا يشكو حاله وحال مَنْ فيه.
مجبرٌ هو على أن يتخلَّى تماما عن أي موهبةٍ أو هوايةٍ تراوده؛ فليس لها مكانٌ ولن يصيبها الدور في أولويات حياته من دروس وحفظ وحشوٍ وتسميعٍ وتفريغٍ، ثم إعادة شحنٍ وهكذا دون انقطاع.
هذا بعضٌ من قتلٍ لأطفالنا، لو أعطيتموهم الفرصة ليعبروا لَفُجِعْتُم برفضهم لكم ولأساليبكم التي تدَّعون أنها لا تصبُّ سوى في مصلحتهم، فهلا أنتهيتم؟
كنت أنتوي التطرق لأمر الثانوية العامة ومنافسات الالتحاق بالكليات والجامعات العامة والخاصة، لكنني فوجئت بأن ما في القلب من غصَّةٍ قهرٍ وشعورٍ بالتِّيه والظلم لن يسعه مقال، فأرجو أن تسنح الفرصة لعمل هذا في القريب العاجل.
هل التعليم غاية أم وسيلة؟
أيُّهذا السؤال وما تضمر من تساؤلاتٍ واستفسارات وعلامات للاستفهام والتعجب، تُراني قد أفلحت حتى ولو في ردٍّ بسيط؟
تمنيت أن أشفيك بكلمةٍ واحدةٍ وهي أنه وسيلة، لكن انظر إلى ذاك الطالب الذي وضع أبواه نُصْب عينيه أن غايته في الحياة الالتحاق بكليةٍ صنَّفها المجتمع بالإرث على أنها من القمم، ورَسَمَا له خطةً يحاكي بها أقاربه الذين سبقوه ووصلوها؛ فليس أقل منهم، ولا أفضلية لهم عليه، مستنكرين قدراته، متغاضين عن رغباته، رافضين اعتراضاته، وما كان منه سوى الاستسلام التام.
فهلا رفقا؟
# نشوة_أحمد_علي