أحياء ولكن!
“الجزء الأول”
حينما تُنقش حروف اسمكَ بمداد زائف؛ يمنحك صَكَّ حياةٍ صدئةٍ؛ لتبصر عين الحقيقة؛ وأنت بجوارهم ملتحفا رفاتهم ؟! ستدرك وقتها أنه لا ثمة فرق بينك وبينهم ..
كانت تلك الكلمات النابعة من قلب أصيب بنزف حاد، لا يتوقف حتى مع محاولات التضميد المستمرة له عبر تلك السنوات التي وَلَّتْ ، مقدمة لإحدى قصصها التي تهرول فوق سطورها
آهات نابعة من شبح الماضي الذي يطاردها بجراحه المتقيحة ،وإن كان ذاك الجرح؛ جرح طفولة بريئة تفتحت من برعم الحياة لتجد نفسها سجينة خلف قضبان الموت .. يطبق علي
أحلامها الوردية؛ فيعتصرها بقوة موحشة ترديها صريعة بباب مقبرته ،هنا وحسب تصبح الكلمات ماهي إلا غيض من فيض مؤلم وقاس….
أنهت ( نور ) مقدمتها وشرعت في سرد القصة …
تساؤلات كثيرة تلك التي تسألينني إياها يا صغيرتي؛ وأنا أتهرب منها كلما تلاقت عينانا …
معذرة حبيبتي …كيف لي أن أجيبك عن شيء يقتلني دونما البوح به؟!
فلطالما وددت محوه من الذاكرة بممحاة النسيان الأبدي.. فكيف إذا بحت به لكِ ؟!
صدقا أخشى عليك بنيتي أن أُحزن سمعك الغض بكلماتي؛ ولكن أعدك إذا ما كبرتِ ستجدين إجاباتي وقد دونتها لك بين سطور قصتي هذه …
تسألينني أين ولدت يا أمي ؟ أين أبيك وإخوتك ؟ لا أعلم عن عائلتك شيئا سوى كلمات مبتورة؛ لا أفهم منها شيئا؛ وبعض أبيات منظومة تصفين بها جدتي التي لا أعرفها إلا من صورة
قديمة، تمسكين بها كل ليلة عندما يجن علينا الليل بستائره السوداء مودعًا آخر خيط من خيوط النهار؛ لتودعيها بقبلة حانية على جبينها؛ ودمعة يتيمة تنعي عمرًا مضى في كنفها..
حان الوقت كي تعرفي من أنا بنيتي.
أنا طفلة تفتحت عيناها على سواد يحيط بها من كل مكان، وأول ما دق مسامعها أصوات بكاء وعويل من أناس يغدون ويروحون كل ساعة من أجل مواراة فقيد لهم بين التراب ،تلك
الحجرات ذوات القبب المتراصه بجاور بعضها البعض؛ هى بيوت الراحلين ،وتلك النبتة التي لا أعرف لمَّ هي على وجه الخصوص التى تزرع بجوار حجراتهم!!.. وبنهاية كل زقاق من
تلك الحجرات أشجار ضخمة أصولها ممتدة بامتداد الزمن تحت طبقات الأرض أغصانها مورفه ومترامية تكاد تعانق أطراف السحاب … كانت تلك الأغصان هي محط نظري مع سنا كل
فجر وليد، فعليها تحط عصافير الصباح من كل حدب وصوب ..
لكم كان شدوها حزينا؛ ولكنه يلامس أنين قلبي؛ وكأنها تواسيني!!…
هكذا كانت التسع سنوات التي قضيتها بذلك البيت الذي لا يختلف كثيرا عن تلك الحجرات المجاورة سوي أنه قد يتسع قليلا ليشملنا جميعا أنا وأبي وإخوتي .. فإني لم أعِ أمي على قيد
الحياة لكنها كانت على مقربة منا بإحدى البنايات المجاورة .. أيامها جميعا تتشابه مع بعضها البعض حد التطابق…
كلَّ نهار أشاهد أبى بمعاونة أخوتي يزاولون مهمتهم بدفن تلك الجثامين التي تتوافد علينا مع أولئك المكلومين من ذويهم، وما يلبث أن يجن الليل حتى أرقب من شرفتي الصغيرة –
المحفورة بجدار حجرتنا – أولئك الوافدين على أبي ليعطوه بعضًا من المال؛ وما يلبث أن تعلو نبرات أصواتهم المترنحة تضج بجنبات المكان ..
أظل أرقب في صمت بعينين زائغتين ..حتى يتطاير ذاك الدخان متسللا إلي بخفةٍ ليطبق على أنفاسي؛ فَأَسْعُلُ من شدة وطأته على صدرى؛ فيفاجئني صوت أبي يرعدني …
لمَّ تقفين هنا أيتها البلهاء؟ لمَّ لمْ تنامي إلى الآن ؟؟
أتلعثم وأفقد القدرة على النطق .. لأجيب ببعض حروف متقطعة
– ح …حس… حسنا…سأذهب إلى النوم
أهرول إلى فراشي المسجي على التراب بزاوية الحجرة… أتوسد ذراعي المرتعش؛ فأهدهد به قلبي المرتجف؛ متوسلة إلى أهدابي أن تنغلقان لتغوص في نوم مصطنع ،إلا أنني أجدني
أختلس النظر لأراه .. نعم ..أراه …
إنه أبي ..يا ويلي .. يحمل بعضا من العظام والجماجم التي كان قد دفنها آنفا ..
ماهذا إلى أين يذهب بها الآن؟؟ ..
إنها ليلة عصيبة بحق ..ما هذا المنظر .!!.أشعر بدوار يجتاح رأسي …أكاد أن أسقط أرضا …أنا بالأساس مفترشة الأرض …ليتها تنشق من تحتي وتبتلعني…
سأموت ..سأموت ..تفوهت بها ولم أشعر بشيء بعدها سقطت فى فوهة نوم عميق هاربة مما يدور حولي…
تسربت أشعة الشمس المتسللة قضبان الشرفة ،تداعب وجنتي بدفئها وذاك الشدو الحزين قد بدأ يدق مسامعي …
صباح مختلف شيئًا ما .. نهضت من فراشي متوجهة إلى الخارج ، لأقف على أعتاب البيت أتابع في صمت ما يحدث بالخارج ..اليوم هاديء فلم يأتِ وافدين جدد ولم تُرتوِ الأرض بعد
من دموع ذويهم .. ثمة شيء جديد أراه من بعيد ،تلك الزهرات الملونة التي بدأت تتفتح وتفوح رائحتها ممتطية نسمات الصباح ،تتغلل حنايا روحي فتجذبني إليها..
هرولت إليها …وقفت أمامها في عجب ..لامست بتلاتها الناعمة أكاد أجزم أني شعرت بدفئها يحتوي برودة جسدي الصغير في ذاك اليوم القارص .
تنبهت على يد تربت على كتفي برفق هامسة بأذني
– ماذا تفعلين هنا يا صغيرتي ؟
التفت إليها لأجدها إمرأة عجوز ،تقاسيم وجهها البشوش تنبئك بطمأنينة وراحة تمحو ما يعترى القلب من حزن وخوف ..
همست بها قائلة ..
-أنا لا أفعل شيئا ..
-أنا فقط أسرني منظر تلك الوردات الملونة فلم تقع عيني هنا من قبل على مثيل لها ،هنا ينبت الصبار ..الصبار وحسب..
ارتسمت بسمة شفيفه على وجهها يخالطها طيف حزن دفين قائلة :
-نعم بنيتي إنها كانت تعشق الزهور ولذلك زرعتها لها بباب حجرتها وآتي كل يومٍ لأرويها لها وأقضي معها يومي ،أشاركها بعضا من أحداثه فلم يتبق لي بعد رحيلها أحد .
وهنا بدأ صوتها يتهدج تخنقه عبرات حبيسة المقل في محاولة منها للإمساك بها دون الفرار ،وذاك الصرير الذي يأن داخلها يطرق قلبي عبر زفرات أنفاسها الملتهبة المتطايرة من ذاك
الآتون المشتعل بصدرها ..
مضت دقائق كلانا ينظر للآخر بعيون زائغه وأرواح حائرة وجروح متكشفة يعجز كل منا عن مواراتها ..
تمالكت نفسها بعض الشئ وسألتني …
ما اسمك يا صغيرتي؟
أجبتها
– اسمي نور
فغرت فاها واتسعت عيناها تحملق بي كأنما اهتديت إلى ضالتها وهي تردد
– نور ..نور .. أيعقل أن يكون اسمك نور . ؟!
فأجبتها مؤكدة
– نعم اسمي نور
يتبع……