أحياء ولكن!
“الجزء الثاني”
باغتتني بذراعيها تلتف حول خصري .. تحملني .. تحتضنني .. تقبل وجنتي هامسة …
– منذ أن رأيتك وثمة شيء يجذبني إليك وحتى اسمك هذا .. نور .. إنه اسم ابنتي الراقدة هنا في تلك الحجرة .. يا لعجائب القدر.
استسلمت واستكنت بين ذراعيها؛ وتنسمت عبير أمومتها؛ وتمنيت أن أبقى هكذا ماتبقى لي من عمر،أشعر وكأني ولدت للتو ولامست كف أمي التي ما أدركتها يوما؛ ولا تدثرت بحضنها
ساعة .
تبادلنا أطراف الحديث؛ حتى أتى أبي ينهرني؛ ويجذبني من بين ذراعيها، فتلطفتْ معه وأخبرته أنها من طلبت مساعدتي في سقيا الزهور
ودعتني ومضت على وعد بقدومها في الغد.
مضت الشهور على تلك الحالة ،حتى أدمن كلانا اللقاء اليومي؛ واعتدنا عليه حتى ذلك اليوم الذي أخبرتني فيه أنها لم تعد تستطيع القدوم بشكل يومي.
كانت كلماتها وابلا من رصاص انطلق من فوهة بندقيته ليصيب القلب في مقتل .. لم أستطع أن أتفوه بكلمة؛ فزخات الدمع المنهمر على وجنتي كفيلة وحدها بالرد.
أكملت حديثها وهي تحاول إزالة القطرات المتساقطة علي وجنتي بأصابعها قائلة:
-انصتي إلي صغيرتي .. لقد أقدمت على أمر آمل أن يسعد قلبك فلا تبكي ..لقد وافق أباك على أن اصطحبك للعيش معي؛ وأن أرعاك على أن تأتي لزيارة أبيك وإخوتك كلما سنحت لنا
الفرصة لذلك؛ أو يأتون هم لزيارتنا .. ما رأيك يا صغيرتي.؟
أومأت برأسي وعلامات الفرح تبدو جلية على وجهي .. أدور وأدور .. أضحك حتى تبدو نواجزي .. تلك النشوة التى تملكتني لا يمكن وصفها ..
عانقتها؛ وقبلتها ثم ودعت أبي وإخوتي ومضينا سريعا ..
تنفست الصعداء بعدما عبرنا من تلك البوابة الرئيسية لذاك المكان وأنا أردد
– أخيرا ..أخيرا أبصرت الحياة ..أخيرا رأيت الألوان المتناثرة هنا وهناك بعدما جثا ذاك السواد علي طيلة هذه السنوات ..
ولجنا إلى بيت مزخرف تملأه الألوان على الرغم من ذاك الحزن والصمت اللذين يخيمان عليه ..
كان به جدران؛ وفرش؛ وأسره
– ماهذا النعيم!
هكذا حدثت نفسي ..نعم نعيم لم أبصره من قبل ..
تنعمت ماتبقى من حياتي بكنف أم لم تحملني بين أحشائها يوما؛ ولكنها حملتني وارتفعت بي وحلقت حيث أسمى وأنبل سُحب الحب والحنان .
كبرت وأدركت الكثير بنيتي..أدركت ..
حينما عدت يومُا إلى أبي أتوسل إليه أن يترك ذاك المكان القاتم ويأتي ليعيش معنا في النور هو وإخوتي فيرفض قائلا :
– إليك عنا .. يكيفنا منك ما ترسله سيدتك من نقود بآخر كل شهر .. ارحلي ودعينا وشأننا .. إن ذلك العطن الساكن أروقة النفوس كبير…كبير إلى حد يصعب علي ضعيفة مثلي تنقيتهم
منه ومن رائحته الكريهة..
لملمت أذيال خيبتي ،وحملت على عاتقي جبال الحسرة والحزن ومضيت أحادث نفسي :
– أبي يتكسب مالا من وراء سعادتي .. أيعقل ذلك ..لم تخبرني أمي بجشعه من قبل ..أكانت تخشي على مشاعري من الصدمة فى أب؛ بدلا من أن يحمد الله على حياة ابنته الكريمة مع
سيدة ساقها القدر إليهم لتنتشلها من قاع مستنقعه المظلم لترتفع بها إلى سطح الحياة الرحب المضاء بالعلم والرقي .. يفرض عليها إتاوة تدفعها له كل شهر .. ليس هذا وحسب بل
تشدد من أزري لأصنع من نفسي كيانًا بعيدًا عن ذاك العالم الذي انفصلت عنه منذ رأيتها …
هكذا يا بنيتي مرت السنون ثم التقيت بأبيك ليكون لي زوجا و رفيق درب ومن قبل كاتبي المفضل منذ حبوت بطريق الأدب لأكمل مسيرتي بكنفه ليكون لي زوج؛ وأخ؛ وأب؛ ومعلم بعد
رحيل أمي …
حررت القلم من بين أناملها؛ وطوت صفحاتها جانبًا بعدما تأججت براكين الألم بين أضلعها؛ وانفجرت الذكريات تحرق تلك الوريقات التي سطرت عليها ….
شعرت بثمة ألم يوخز نياط قلبها وصوت حفيف يتنامي بداخلها شيئا فشيئا يحثها للعودة ثانية إلى ذاك المكان الذي ارتحلت عنه منذ زمن ،ربما هو الحنين إلى أمها
نظرت بساعة يدها ،فإذ بالنهار يطوى أشعة الشمس مرتحلا ولكن ذاك الصوت يلاحقها كي تذهب
حدثت نفسها :
– لا بأس سأذهب الآن .. لقد اعتدت على تلك الظلمة؛ لا شيء يخيف؛ لكم قضيت من ليال حالكة السواد بين جدرانه ..
ولجتْ المكان تتقدم خطواتها في ثِقل لترى ذاك الكهل مفترشا أعتاب بيته ومن حوله صبية يترنحون يمنة ويسرة وتلك الروائح الكريهة التي تكاد تختنق منها ،إنها ذات الرائحة التي
كانت تختنق منها في الصغر …الآن عرفتْ ماهية تلك الروائح .. إنها رائحة الحشيش .. ذاك النوع من المخدرات التي تذهب بعقول هؤلاء الصغار الضائعين في غياهب التيه ومستنقع الإفساد المتعمد لتحطيمهم ..
يتبع…..