كنت بالأمس فى مطار بيسو الدولي فى استقبال أحد الأصدقاء، وعلى باب المطار وقف بيسو فى قمة أناقته المعتادة بين مودعيه، لم يكن المنظر غريباً علىّ فقد اعتدت منه على كل جديد، لكننى أعترف أن لون حذائه الأحمر القانى الڤارنيه الذى كان من نفس درجة لون بنطلونه جعلنى أتسائل بينى وبين نفسى:
– همّ حتّة واحدة والّا انا متهيألى.
كان بيسو ممسكاً بعقب سيجارة، يكاد لا يرى، بين إصبعى الإبهام والسبابة، مستنداً بيده الأخرى على كتف صديقه “أنّح”، ويأخذ نفساً عميقاً من سيجارته بصوت مسموع، ويعطى له تعليماته الأخيرة بصوت استمع له كل مريدى المطار:
– ما اوصيكش يا أنّح ع البت حلاوة، إنت عرف انها لسّه صغيّرة، وده أول موسم يعدّى علينا بعد الخطوبة، وآنى مش موجود، خد البريزتين دول، واشترى لها عروسة مولد، وروح اظرفها بؤين حلوين بالنيابة عنى فى الموسم.
– عيب يا جدع، دى حلاوة دى إختى، حط فلوسك فى جيبك، وآنى رقبتى سدادة.
شكر بيسو صديقه أنح، وعبر عن عميق اعتزازه بصداقته بضربة بوكس قوية من يده، تلقاها أنّح فى صدره بسعادة بالغة، وردها بأخرى أقوى منها وسط ضحكات المودعين، وارتعد لها طفل ممسك بيد والدته وتساءل:
– مامى، همّ ليه بيضربوا بعض؟.
– لا يا حبيبى ما تخافش دول بيودعوا بعض بس.
– يعنى بابى ح يضربنا كده دلوقتى وهوّ مسافر؟.
– لا يا حبيبى ما تخافش.
تذكر بيسو بعض الأشياء التى يريد أن يوصى بها صديقه أنّح:
– ما تنساش تبقى تطل على التوموسيكل، أنا رافعة فى جراچ الولا ” كانّو “، وخللى بالك أحسن حد يركبه.
– آنى نجيب لك كرش اللى يستجرا يهوّب منه.- وابقى فوت كمان شهر ع الولا حِنْجِل، ليّا عنده سبعة وخمسين جِنِى باقى تمن منتلون كنت جايبه له من بورسعيد، وليا شرز احمر عند الولا “حنكورة”، كان مستلفه فى فرح اخوه، إبقى خده حلال عليك.
ودع بيسو مودعيه، ودخل إلى المطار دافعاً عربة الأمتعة وعليها ثلاث حقائب كبيرة وحصيرة وبلاص عسل أسود ملفوف بقطعة من الخيش ومكتوب عليها وعلى كل الحقائب “بسيونى الشاطر، الشهير ببيسو آلاجا، 20 شارع البرنس ابراهيم، قدّام فرن ابو شنب، الحضرة القبلية، الاسكندرية،،،، ماشى فى نور النبى والتوكال على الله”.
كان بيسو يجرى بالعربة يميناً ويساراً، وكأنه فى سباق مع الزمن، وخيل لى وكأنه يدفع تريسكل به لوح ثلج يخاف عليه من الذوبان وسط ذهول تام من رواد المطار الذين حبسوا أنفاسهم، وانتحوا جانباً ليفسحوا لبيسو المندفع وهو يصيح بأعلى صوته:
– وسّع يا افندى، وسع يا محترم، ضهرك يا ست، خللى بالك يا حاجة، ما تخافيش يا سنيورة.
بدأت وتيرة الأمور تتصاعد عندما ظهر رجل وقور فى قمة أناقته، يبدو عليه من مظهره أنه رجل أعمال، يرتدى ثياباً فاخرة، وتفوح منه رائحة عطر باريسى جذاب، يدفع أمامه عربة الأمتعة وعليها حقيبة متوسطة الحجم، ويتدلى من كتفه حقيبة أوراق صغيرة، وفى اللحظة التى ترك فيها عربة الأمتعة ليلتقط هاتفه المحمول الذى سقط على الأرض، تتحرك العربة قليلاً وتصطدم بعربة بيسو المندفع، وهنا تقع الواقعة، يسقط بلاص العسل على الأرض متحطماً، وينساب نهر العسل فى الطرقات،،،،، سيدة شيك ترتدى حذاءاً ذى كعب عال، تسير وكأنها تعزف بخطواتها الرشيقة إيقاعاً منتظماً، وفجأة تنزلج قدماها، ويتغير الموقف تماماً،،،،، يحاول زوجها أن يمد لها يد العون ويساعدها على الوقوف، فيسقط هو الآخر فوقها، ويتزايد عدد ضحايا العسل تباعاً، ويسود الهرج والمرج ردهات المطار، ويزداد الموقف تعقيداً عندما يصرخ بيسو فى وجه الرجل الأنيق:
– مش تفتّح؟، الله يخرب بيت أبوكو ع الصبح.
– سورى.
وبينما يهم الرجل في مساعدة بيسو فى ترتيب حقائبه، يصرخ الآخر هائجاً:
– بلا سورى بلا لبنانى، غور من خلقة أمى ع الصبح، جاتكوا البلاوى.
– أنا متاسف مرة ثانية، مش قصدى والله، ومستعد أدفع لحضرتك تمن العسل، أقدر أعمل لحضرتك أيه بالظبط؟، أنا تحت أمرك.
يرد بيسو متهكماً فى سخرية:
حضرتك،،،، إنتى فاكرنى لا مؤاخذة تلميذ؟،،،، يعنى ماشى غلط، وشايفنى فاتح، والسكة سكتى، وعايز تعدينى من ع اليمين، وتكسر عليّا، وتصدر لى التروبيل بتاعك قدّامى، وبعد كل ده تغلط، وتقول لى ح أدفع لك تمن العسل،،،،، مش بيسو اللى يقبل العوض، بس لازم بقى لا مؤاخذة تصلح لى التروبيل، ده مش بتاعى.
فشلت محاولات الرجل وباقى الجمهور فى إقناع بيسو بعدم منطقية ما يقوله، فزاد هياجه، وصرخ فى الجميع:
– يلّا يا افندية، كل واحد يشوف مصلحته، هويّنا يا اخويا منك له.
واستدار ناحية الرجل الوقور:
– قولت أيه يا افندى؟، ح تصلّح لى التروبيل والّا لأ، بالمختصر المفيد كده آنى اتخنقت منك.
– أصلّح أيه، وفين يا حضرت، إنت بتخرّف بتقول أيه.
– ح اوريك التخريف بقى على أصوله.
وانقض بيسو على عربة أمتعة الرجل يركلها بشدة ولم يتركها إلا حطاماً وسط ذهول الرجل وباقى الركاب، وأسرع رجل أمن وأمسك ببيسو:
– إنت بتعمل أيه يا مجنون؟.
– خبط لى التروبيل بتاعى ومش عايز يصلحه، كده خلاص، واحدة بواحدة.
إنتهى الأمر بأن اصطحب رجل الأمن بيسو، والرجل الوقور إلى مكتب الأمن لإجراء تحقيق، ووجد بيسو نفسه فى مأزق، فهو مهدد بإلغاء سفره، بينما سُمح للرجل الوقور بالانصراف للحاق بطائرته، وبدأ بيسو كالعادة فى التراجع، وقلب على ” الوش ” الثانى، وأنجنى يقبل يد الرجل الوقور محاولاً الاعتذار:
– أبوس إيدك يا باشا، آنى محقوق لك، عيل وغلط يا باشا، خلّيهم يعتقونى لوجه الله، ده انا سالف تمن التذكرة.
أخيراً، وبعد فاصل بكاء وعويل من بيسو، رق قلب أحد الضباط، وسمح له بالانصراف بعد فاصل من التوبيخ، وذهب للحاق بطابور إجراءات الوزن، وينبهه الموظف:
– حضرتك عندك وزن زايد، خد الورقة دى وروح الخزينة إدفع لى 100 جنيه وتعالى.
– يعنى أيه لا مؤاخذة مش فاهم، ما آنى قاطع تذكرة، ودافع فيها الشىء الفلانى، وبعدين دى الكراكيب دى كلها ما تجيبش 100 جينى.
– لو سمحت بسرعة شوية علشان أشوف غيرك.
– خلاص يا باشا آنى ح اشيل الوزن الزايد معايا فى الطيارة.
– ما ينفعش تاخد كل ده معاك، يا تدفع وزن زايد، يا تسيبه.
يرفض بيسو التفريط فى أىٍ من مقتنياته، ويذهب ليدفع الوزن الزائد لاعناً بصوت عال الحكومة، والظروف التى حوجته للسفر، ويوجه كلامه لسائح أجنبى لا يفهم بالقطع ما يقوله وهو ممسك بيد الرجل المذعور:
– طيب انا راضى ذمتك يا خواجة، ينفع كده والنبى؟
– سورى.
– يا عم انت كمان ح تقول لى سورى، أيه القرف ده، استخفر الله العزيم.
يدخل بيسو إلى صالة السفر وهو يتمتم فى سره مستغفراً الله، ولاعنا سلسفيل أبو الحكومة اللى مشغّله بهايم فى المطارات على حد قوله، ويجلس بجوار سائحة أجنبية، بمجرد أن تراه تقوم فى هدوء وتتركه يدخن سيجارة من أخرى، وبينما هو جالس وسط كومة من أعقاب السجائر الملقاة على الأرض، يقترب منه شخص آخر، يرتدى ملابس تكاد تتطابق تماماً مع ملابسه، ويناديه بصوت مرتفع انزعج له طفل صغير، امسك بذيل فستان أمه من فرط الرعب:
– ولا يا بيسو، يخرب بيت أم اللى حدفك هنا، رايح على فين؟.
– مين حمّو.
ويتبادلان سوياً فاصلاً من السباب والضرب والعناق، بينما يستمر الحديث:
– رايح القّط رزقى فى السعودية.
– قشطة وآنى كمان رايح السعودية، ما قولتليش ح تشتغل أيه هناك.
– لغاية دلوقتى ما اتخذتش ” كرار “، بس شكلها كده ح اخش فى كار النقاشة.
– وانت أيش فهِّم أهلك فى النقاشة يا بيسو؟، ما انت أسطى دوكو محترم يا غدع.
– وأيه الفرق لا مؤاخذة؟، كله بوية يا ابا، ومفيش حد هناك هارش حاجة، وشوف يا صاحبى، طول ما معاك الفرشة والجردل والسلم، إنت كده فى السليم.
– يا ابن الحلال ما تخليك فى كارك أحسن.
– يا ابويا ما حدش هناك بيعمل سمكرة ودوكو، ده بيقول لك التروبيل اللى بيتخربش بس بيرموه وبيجيبوا واحد جديد، وبعدين النقاشة بقى مش محتاجة غير انك تسلِّك مخك بكلمتين، إنت فوق ع السلم والزبون تحت مش ح يطلع لك، ولو قال لك على حاجة مش عاجباه، تقول له العيب من البوتون، الرتوبة لادعة الجدار، اللون مع الشمس ح يبقى ميه واحدة، أى كلام يا صاحبى ومشّى حالك، وبعدين ما اخبيش عليك أنا مابقيتش استحمل التِنَر، وخايف يطلع على صدرى، ويلَيّس على مخى، واضرب زى اللى حصل للأسطى جابر، أهو ماشى يا ولداه فى الشارع بيهرتل، وعيال الحتة وراه.
– وانت ناوى تشتغل ايه يا حمّو؟.
– يا ابويا أنا لحّام أوكسيزين، وما افهمش غير فيه.
– يا عم سيبك من الأوكسيزين ده خِطِر، وتعالى اشتغل معايا ح اوكِلَك الشهد، بلا أوكسيزين بلا بنزين يا ابا ده الغلطة فين بعين على طول، عارف سيد مكاوى الله يرحمه؟، كان لحّام أوكسيزين، وغلطة بسيطة جرى له اللى جرى.
يُفتح الباب الفاصل بين صالة السفر والأوتوبيس، ويبدا المسافرون بالاتجاه تباعاً لييستقلوه للوصل بهم إلى الطائرة، ويشرد بيسو، ثم يبوح بسر شروده لحمّو:
– حمّو آنى قلقان على الشنط، كان لازم أستِّفها بنفسى فى الطيارة، مش مكتنع بموضوع السير ده، أيه يضمن لى السير يا خدها على طيارة السعودية، مش جايز ياخدها على طيارة العراق؟
– ما تخافش يا غدع، ده شغّال توماتيكى، وكل طيارة ولها سيرها، عارف لو انت حطيت الشنط غلط على سير العراق، مش ح توصل للطيارة، والسير ح يصفّر، واللومَد دى كلها تقيد، والكومبيوتر يهرش، ويروح من نفسه محملها على طيارة السعودية، شغل توماتيكى يا صاحبى.
يتحرك الأوتوبيس بالركاب باتجاه الطائرة، وينتبه بيسو للأمر ويصرخ:
– يا سنة سودة يا حمّو، الأوتوبيس فاتنا.
– م تخافش يا بيسو، ح ييجى واحد تانى.
– وانا إيش يضمن لى يا أخويا ان الطيارة ما تتملاش، خليك انت مستنى، أشوفك فى السعودية.
ويقفز بيسو مزيحاً كل الركاب من أمامه، ويجرى وراء الأوتوبيس صائحاً:
– إستنى يا أسطى، أبوس رجلك.
وتعلن حالة الاستنفار الأمنى فى المطار، وتنطلق سيارة شرطة وراء بيسو المسافر.