من ولد في ذلك اليوم(9 أبريل 2003) بلغ سِن الشَّباب، سنتان وسيشارك في الانتخابات، وعندها سيشارك في إقرار سياسة البلاد، متشبعاً بالخطاب الدِّيني، ترك خلالها المدرسة سنوياً نحو نصف العام، حيث المناسبات الدِّينية التي لا عدَّ لها، ووجد أمامه أضرحة جديدة، وأخذ يمارس «الإرهاب الإسلامي». توزع ذهنه بين خطباء المنابر مِن قصاصي الشّعوذة، مع واقع بائس لبلد يُعد مِن أغنى البلدان. فتح عينيه على التحشيد المذهبي، وكم مِن أترابه عادوا في التَّوابيت، بدافع معارك حماية الأضرحة. قُتل مقابل خمسمائة دولار شهرياً، لأنها فرصته الوحيدة. أما الذين جندوه وحشدوه فليس عليهم غير عمل التشييع الجماعي، بمواكب أعراسِ «الشَّهادة».
تكاد تتفق القوى الدينية أن وجود هذا العقل المنحط هو وسيلة تأثيرها، فالحزب الذي حكم نحو أربعة عشر عاماً، من الستة عشر، أكثر الأحزاب تشدداً في البقاء على التخلف، وقادته يتفاخرون بضخامة المواكب الدِّينية. أسقط الفارق بين الموت والحياة، جعل أتباعه لا يميزون بين تقاليد العرس وموجبات المأتم. أمينه يُجيد التحريض الطَّائفي، ولعله أول مَن استلهم فتوى الانتحار جهاداً(1981)، المعروفة بـ«التترس»، قتل أبرياء لخدمة النظام الإسلامي الجديد آنذاك، قَبل “القاعدة” وأخواتها، حتى صار المجرم مجاهداً مقدساً.
ليس الجميع يُفرق بين الحقيقة والوهم، ولمعروف الرَّصافي(ت1945) أبيات: «لُقنْتُ في عصرِ الشَّباب حقائقاً/في الدِّين تَقْصُر دُونها الإفهامُ/ثم انقضى عصر الشَّباب وطيشه/فإذا الحقائقُ كلها أوهامُ»(الديوان). بهذا المعنى أخذ يتحدث مَن خرج مِن إطار ذلك التنظيم الكارثي.
إنها (16) عاماً مِن الوهم والضَّياع، يعيشها العراقي مِن الابتدائية إلى الجامعة، حتى جاء زمان تُشكل لجان من العمائم للإشراف على الجامعات. ينزل عميد كلية لتوزيع الطَّعام على المواكب الماشية، واضعاً طبق الطعام على رأسه، وكأنه خرج مِن كهف أمضى فيه قروناً.
آخرها خرج أحد خطباء المرجعيات، والمتنفذ بأموال العتبات الدينية التي حملها الواهمون له، يُغريهم بالفقر في الدنيا مقابل غنى الآخرة، بأكثر وهماً من «صكوك الغفران»، لكن قرون العراق الوسطى ليس فيها ثائر كمارتن لوثر(ت1546).
عاد العِراقيون إلى فضيحة العقل قبل ألف عام، غير أن تلك الأجيال كانت معذورة، لا تعليم ولا طبابة ولا رقي كالذي وصل إليه البشر في هذه الفترة، فلماذا العراق تخلف عن الأُمم إلى هذا الحضيض، ولمحمد مهدي الجواهري(ت1997): «مشت كلُّ جارات العِراق طموحةً/سراعاً وقامت دونه العَقبَات/ومن عجبٍ أن الذين تكفلوا/إنقاذ أهليه هم العَثرات»(الرجعيون).
كانت رجعة العقل العراقي إلى أوهام تلك العصور، وكأنها البارحة: «رأوا في البرية خيماً سوداً، وسمعوا منها لطماً شديداً وعويلاً كثيراً، وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجان، وأي بلد لم يلطم أهله عليه، ويعملوا له العزاء قُلع أصله، واُهلك أهله. فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمن وينحن، وينشرن شعورهن، وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك»(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ)، وها هم الأخيرون يتلاعبون بالعقل كما يشاؤون. يحدث هذا بتعظيم مِن السُّلطة نفسها، فالخطيب المشعوذ يرافقه موكب حماية وحاشية، تقف له الدوائر صفين ترحيباً.
ليس مِن الحقِّ إنزال الملامة على النَّاس الموهومين، لسبب حشو العقول بالشَّعوذة، فكلُّ صاحب عِمامة يُشار إليه بالعالم، بينما يُغتال أساتذة علوم الطَّبيعة والمجتمع. إنما اللوم يقع على السلطة لعدم تقييد تلك المنابر، في المؤسسات التَّعليمية الرَّسمية والدِّينية، فاغتيال الأذهان ليس أقل جريمة مِن اغتيال الأبدان!
أقول: عِقب (16) عاماً من الوهم، لابد مِن وضع حدٍ، والبدء بمكافحة الفساد مِن الكبار، وأن يكون الاتفاق مع أي دولة بشروط، أولها نزع سلاح الجماعات الموالية لها، لأنها الحامية للشعوذة والانحطاط. تنظيف القضاء مِن الفاسدين بالعدالة، وإبعاد العِراق عن أحلاف مقاومات أو ممانعات، أن تكون سياسة واضحة إزاء الدُّول الإقليمية كافة، وينتهي العمل بإعادة الفضل الذي قُدم للأحزاب في زمن المعارضة، فالعراقيون غير مسؤولين عمَّا قُدم لها. عدا هذا، سيبقى الوهم سائداً، ولو بعد مئة عام.
* نقلا عن “الاتحاد”