رواية «فارس» – بقلم أسماء خلف
الفصل الخامس
بلغ الصديقان الحجرة .. اقترب فارس من موضع الكتاب والقلادة بشئ من الحذر، وقليل من الخوف .. كانت علامات القلق تملأ وجهه، ويدأه ترتعشان، كلما اقترب أكثر، فهذه آخر فرصه لإثبات أن كل ما رآه كان حقيقياً، فكل الأشياء تعاكسه.
ولكن هذه المرة، اختلف الوضع قليلاً .. فها هو الكتاب والقلادة في يد فارس .. تنفس فارس الصعداء، وكأن روحه رُدت إلى جسده .. فاطمأن قلبه قليلاً .. ثم نظر إلى صديقه نظرة المنتصر، قائلاً: أهو الكتاب .. أنا مش مجنون يا خالد، اتأكدت من كلامي؟ .. اتأكدت فعلاً إن فيه حاجات غريبة بتحصلي؟
وبعدها تغيرت ملامح فارس إلى خوف وجلس على الكرسي، في فتور .. ثم عاود كلامه: والله ما عارف أفرح علشان اتأكدت إن كلامي صح، وإني مش مجنون، ولا أزعل علشان طلعت صح ونهايتي قربت.
كان خالد في تلك اللحظة يبحث في قاموسه عن كلمة تداوي جروح صديقه، ولكن اكتفى بالصمت.
وما أن وقعت عينا خالد على ذلك الكتاب، حتى كادتا تسقطان من محجريهما .. فأمسكه بيديه في رهبة .. وأخذ في تصفحه .. وفضوله قاده لأن يقرأ فيه .. استعصى عليه الأمر في بادي الأمر، فقد كانت اللغة غريبة حقاً .. اعتقد خالد أنها كانت لغة عبرية جافة وبعضاً من اللاتينية القديمة.
مع كل حرف يلفظه خالد .. كانت الأرض تهتز تحت أقدامهما .. ثم بدأت النوافذ تُغلق وتُفتح كالتي أصابها مس شيطاني أو إعصار .. ولن ننسي صوت تلك الموسيقى المخيفة .. أو تلك الأصوات الخافتة .. فكل ذلك كان كفيلاً بأن يقذف الذعر في قلب الصديقان.
ظلا جامدين مكانهما .. ينتظران مصيرهما…
كانت قلوبهما تخفق بقوة ألف ريختر .. كانا يبحثان عن مصدر كل هذا .. ولكن ياللعجب فقد توقف كل شئ بمجرد أن سقط الكتاب من يد خالد .. ربما بفعل الرياح .. وربما لشدة ارتعاش يديه .. لا يعلم أحد.
كل ما حدث، أن ذلك الكتاب طوى صفحاته .. فانتهى كل شئ كأن شيئاً لم يكن .. اتسعت حدقتا عين فارس .. لما رأى .. فهو لم يجد لذلك تفسيراً.
كيف بدأ هذا وبسرعة انتهى؟!
ثمه قوى خفيه تتحكم بكل ذلك! وتتلاعب بالأشياء من خلف الكواليس!
اقترب خالد من الكتاب بكل حيطة وحذر .. ليتأكد أن كل شئ انتهى فعلاً .. ثم سحب فارس من يده .. وخرجا من المنزل .. ليستقرا بالسيارة المليئة بالخدوش وبعض الصدمات إثر ذلك الحادث .. مسح خالد وجهه، وقال بصوت مضطرب: احنا في خطر يا فارس.
نظر فارس إليه وقال بشئ من الجمود: ومن إمتى مكناش في خطر يا خالد؟
خالد: اسمعني .. انت عارف الكتاب اللي جوه ده كتاب إيه؟
فارس: كتاب إيه؟
خالد: ده الكتاب الأسود يا فارس .. الكتاب ده خطر .. خطر علي أي حد يمسكه.
فارس: أنا مش فاهم .. يعني الكتاب ده ليه علاقه باللي بيحصلي؟
خالد: معرفش . بس كل اللي أعرفه إن الكتاب ده ليه علاقه بالسحر الأسود والأبيض .. بيجمع السحرين مع بعض .. كتاب كده زي شمس المعارف في خطورته .. مجرد إنك تحاول تفهم كلامه هتعيش في عذاب.
فارس: وانت عرفت كل ده ازاي؟!
خالد: انا قريت كتير عن السحر يا فارس .. بس انا كنت فاكر إن الكتاب ده أسطوره .. ياترى إيه اللي جابه لعندك؟!
فارس: تفتكر انا لو أعرف مين اللي جابه عندي، كنت هقعد كدة مش فاهم حاجه؟ .. وبعدين انا مش مؤمن بالسحر يا خالد .. أكيد اللي بيعمل كدة حد ناوي يجنني.
خالد: مجرد سؤال يا فارس .. يارب نلاقي ليه جواب .. والسحر موجود .. بس مش دي مشكلتنا دلوقتي .. المهم دلوقتي اننا نبعد عن بيتك الفتره دي.
فارس: أكيد لازم نبعد .. حد هيقدر يدخله بعد كده؟
خالد: تمام .. هنروح بيتي نقعد فيه لحد ما الأمور تتحسن، ونعرف مين اللي ورا ده كله.
ترك الصديقان المنزل بكل ما فيه .. قاصدين منزل خالد .. دلفا إلى الداخل .. ثم أخذا في التفكير لكل تلك الأشياء ولكن لم يهتدا لشئ .. خطر على بال فارس أن يذهب إلى الأرشيف، ليسأل عامله عن شئ بخصوص ذلك المقال عن القرية الملعونة .. وأيضاً على ذلك الصحفي .. لم يكن يعلم لما دار في خاطره أن يذهب إلى عامل الأرشيف .. فما شأنه بكل هذا .. ولكن الشئ الوحيد المتيقن منه .. إنه قطعاً سيشفي غليله .. بهذا السؤال .. ربما يجد صدفة طرف خيط يدله .. وربما يرجع مكسور الخاطر .. انقضت تلك الليلة في التفكير فلم يتذوقا للنوم طعماً .. ولم يعرفا لراحة البال مكاناً.
حل الصباح أخيراً وذهبا الشابان إلى العمل .. كل منهم في عالمه الخاص .. يفكر فيما ينتظره بعد ذلك.
بمجرد أن لمست قدم فارس باب الجريده .. أسرع إلى الأرشيف .. كان السكون يعم الأرشيف .. والإضاءة خافتة بعض الشئ .. لدرجة أن فارس ظن خاطئاً أنه لن يجد أحداً كالمرة الماضية .. ولكن فوجئ بأحد العاملين يأتي من خلفه .. فكاد قلبه يسقط في قدمه .. فقد كانت هيئه ذلك الرجل مخيفة .. كانت علامات السن تظهر على وجهه بطريقة عجيبة.
نظر إلى فارس نظره جمود قائلاً: أي خدمه؟
رد فارس باضطراب: انا كنت جاي أسألك على حاجة .. واتمنى إنك تساعدني.
عامل الأرشيف: اتفضل اسأل.
فارس: عايز أسألك بخصوص مقال كدة أنا أخدت الجريدة اللي كان مكتوب فيها من هنا، من حوالي أسبوع.
تغيرت معالم عامل الأرشيف .. ثم قال في ضجر: أنا معرفش حاجة بخصوص القرية دي .. آسف يا ابني .. مش هقدر اساعدك.
فارس: طب تعرف الصحفي اللي كتب المقال ده؟ .. تقريباً كدة اسمه (أحمد حسن).
عامل الأرشيف: قلتلك يا ابني أنا معنديش حاجه أفيدك بيها .. أستئذنك بقى علشان ميعاد الراحة بتاعي.
ترك ذلك الرجل فارس في حيره من أمره .. متيقناً أن طرف الخيط يبدأ من عند عامل الأرشيف .. فعيناه تفصحان عما يحاول جاهداً أن يخفيه .. قطعاً وراءه سر .. سر كبير جداً……