أن تكون فاشلاً، وتعترف بفشلك، فهذه أول خطوة لك فى طريق النجاح، وأن تكون فاشلاً، ولا تعترف بذلك، فستظل دوماً على فشلك، أما أن تكون فاشلاً، وتعتقد أن ناجح، فتأكد أنك ستنحدر نحو مزيد من الفشل، لأنك ببساطة غبي، فالذكاء باختصار هو قدرتك على الاعتراف بفشلك.وقد أكون من هؤلاء الذين يقتنعون جيداً بأن حركة الزمن قد تجاوزتنا، وانطلقت أمم كثيرة حولنا، كانوا حتى البارحة، يتلقون تعليمهم على ايدى معلمينا، وينهلون من علم علمائنا، إنطلقت تلك الأمم وتخطتنا بمراحل لأننا وقفنا مرتكزين على تاريخ ماض، ولّت أيامه، واكتفينا فقط بترديد مقولتنا الجوفاء “نحن شعب له من الحضارة سبعة آلاف سنة”.
ونظراً لأننا أغبياء، ولا نملك أى رغبة جادة فى تجاوز فشلنا، فقد شغلنا أنفسنا بادعاء أننا لسنا فقط أذكياء، بل وعباقرة، وهكذا رحنا نبالغ فى إضفاء صفة الذكاء على كل ما نفعله.هذا ما تأكدت منه بنفسى وأنا أتجول داخل مدينة بيسو عاصمة جمهورية بيسو.
على أطراف المدينة، يقع تجمع إسكانى جميل، يمتاز بفخامة معماره، وعلي الباب الرئيسى لافتة مكتوب عليها “القرية الذكية ترحب بكم”.
لفت نظري للوهلة الأولى موظف الأمن بزيه الرسمى الذى خدعنى وخِلْتُه رئيس أركان قوات جمهورية بيسو المسلحة من كل هذا الكم الهائل من النياشين والأنواط التى تزين صدره، وسمح الرجل لكل السيارات بالمرور بإشارة من يده، وأنحناءة من جسده الممشوق، وبأدب شديد كان يوزع على الكل تحية واحدة لفتت نظرى، وخاصة أنه لم يقلها لى، كانت تحيته للجميع لا تخرج عن ثلاث كلمات “اتفضل سيادة الذكى.. اتفضلى سيادة الذكية”.
طلب الرجل منى الوقوف على جانب الطريق، وتقدم منى ليطلب أوراقى، وبادرنى بالسؤال:
– هو سيادتك مش ذكى؟.
– مش ذكى ازاى؟، باين عليا غبى يعنى؟.
– لا يا افندم عفواً، ما أقصدش، قصدى حضرتك زائر؟.
– ايوه زائر،،،،، أجبته بضجر واضح.
– طيب معاك دعوة؟.
– لأ.
واعتذر الرجل، وفهمت منه أن لقب “ذكي” هو لقب رسمى لكل العاملين بالقرية، واصطحبنى ناحية لوحة إعلانات مكتوب بها قواعد الدخول، واشار لى بيده لاقرأها، كانت التعليمات واضحة،،، مسموح للدخول فقط للأفراد التاليين:
– حامل كارنية “ذكى”.
– المدعو مسبقاً من فرد ذكى، أو الذى يقوم إثنان من أذكياء القرية بضمانه.
ولما كانت تلك الشروط لا تنطيق علىّ، كان علىّ ضرورة المرور على مكتب كبير الأذكياء، لتسجيل بياناتى كزائر، واستقبلنى الرجل بكل ترحاب، وفحص أوراقى، وسألنى عن أى وجود لاسم ذكى ضمن إسمى الكامل، أو حتى لأى من الأقرباء حتى الدرجة الثالثة، وتهلل وجه الرجل، الذى كان يبدو عليه أنه يريد مساعدتى، عندما قلت له أن عمتى اسمها “ذكية”، وداعبنى قائلاً:
– طبعا زكية بالزين مش بالذال، بس ماشى حنمشيهالك علشان انت بس غريب عن البلد، وقام بتسليمى كارنيه “متذاكى”، الخاص بالزوار، وأفهمنى بأن هذا الكارنيه سيفتح أمامى كل الأبواب المغلقة، وأننى استطيع التجول فى القرية بحرية، ومقابلة كل من يحلو لى.
كعادتى دائماً فى سفرياتى خارج البلاد، أحرص على زيارة المتاحف، المسارح، الأماكن التاريخية، والأسواق، وكانت البداية من المتحف القومى.لفت نظرى تلك اللافتة المتكررة الموجودة فى كل أرجاء المتحف ومكتوب عليها ” إحترس من التماثيل “، ولم أفهم معناها، وسألت أحد أفراد الأمن، ولم أفهم حتى رده الغريب على استفسارى حينما قال لى ” أصلها بتتذاكى شوية “.
توقفت كثيراً أمام تمثال ضخم من الجرانيت الأبيض، وفهمت من بيسو المرشد السياحى أن التمثال يبتسم كلما تقترب منه فتاة، وخاصة إذا كانت جميلة، ويغمز لها بعينه، وعرفت منه كذلك أنه للملك ” بصباص الأول “، مؤسس دولة المتحرشين، الذى مات فى ظروف غامضة، وعثر عليه عارياً كما ولدته أمه وقد قبض بيده على علبة فياجرا فارغة، ومازال تمثاله وهو يشير إشارة بذيئة بأحد اصابع يده اليمنى شاهداً على مدى وقاحته، لم أصدق الرجل حتى سمعت باذنى ورأيت بعينى كيف أن التمثال نظر إلى مؤخرة سائح أوربى فى سن الصبا كان يسير بجانبى، وابتسم وهز رأسه وغمز بعينه وقال ” يا أرض اتهدى ما عليكى قدى، أموت انا فى القواعد المصححة “، وأصابنى الذعر، وهرولت خارجاً من المتحف وأنا أقول ” يا نهار اسود، هوّ فيه العادة المنيلة دى؟ “، وسمعنى رجل الأمن وابتسم قائلاً ” مش قلت لك التماثيل بتتذاكى شوية “، ولعنت أبو الذكاء وانصرفت.
فهمت معنى الذكاء الحقيقى عندما دخلت المطعم المواجه للمتحف لتناول الغذاء، كانت هى المرة الأولى فى حياتى التى لم أجد فيها فى مطعم بين كل تلك المطاعم التى ارتادتها فى حياتى قائمة طعام، وكلما كنت أطلبها من أحد الجرسونات، كان يرد رداً واحداً ” ما تستعجلش على رزقك، كل حاجة ح تيجى زى ما حضرتك عاوز بالظبط “، ولما كنت أرد بما يعنى أن أحداً لا يعرف ما الذى أريده، كنت أتلقى أيضاً رداَ واحداً ” ما تخافش، حضرتك فى المطعم الذكى “.لم أنتظر كثيراً، وما هى إلا دقائق معدودة، وأقبل ثلاث جرسونات، وقاموا برص الأطباق أمامى، كان الأمر عجيباً بالنسبة لى، كل ما تمنيت أن أطلبه، وجدته أمامى بدون أن أطلبه، الكوارع بالشوربة والفتة، يا إلهى،،، حتى قطع البصل الأخضر الذى افضله فى طبق منفصل، بجانب طبق سلاطة التبولة، وكان الشىء الأعجب هو ما حدث عندما لمحت رجلاُ فى الطاولة المقابلة لى، يلتهم حمامة محشوة، وسال لعابى، وفوجئت بالجرسون يحضر لى زوجاً من الحمام فى طبق، ويهمس فى أذنى ” عشان بس ما نسيبش فى نفس حضرتك حاجة “.أتى وقت مشروب ما بعد الغذاء، وقبل أن أهم بطلبه، جاء جرسون آخر يحمل لى فنجاناً به مشروب غريب، تذوقته ووجدته قرفة بالجنزبيل، هذا المشروب الذى لا أطيقه، ولا يمكن أن يكون قد جال بخاطرى، وناديت على الجرسون، وأنا أشعر لأول وهلة بنشوة الانتصار، وجاء رد الرجل مخيباً لآمالى:
– عارف حضرتك كان نفسك فى كوباية شاى زردة، بس اللى حضرتك مش عارفة بقى إننا عارفين إنك ممنوع من شرب الشاى بأمر الدكاترة، وإنهم نصحوك بشرب القرفة بالجنزبيل.
وأسقط فى يدى، فقد كانت تلك هى الحقيقة. وكان لابد لى من أن أعرف السر، وكيف إنهم هنا يعرفون عنى كل شىء، وقبل أن أهم بسؤال الكابتن الذى جاءنى بالفاتورة، التى لم أطلبها بالمناسبة، قال لى الرجل وهو يمسك بيده كارت ” متذاكى ” الذى أعلقه حول عنقى:
– سعادة الباشا، السر فى الكارت ده، ده متوصل بكمبيوتر، بيحلل كل كلمة وكل همسة فى حياتك، يا باشا حضرتك فى المطعم الذكى فى القرية الذكية، يعنى كله ذكاء فى ذكاء،،،،، قالها ثم همس فى أذنى عندما مرت أمامى فتاة غاية فى الجمال والإثارة، وتظهر من جسمها أكثر مما تخفى قائلاً ” تحب اقول لحضرتك انت بتفكر فى أيه دلوقتى؟ “،،،،، وكان ردى العفوى ” لا أبوس رجليك، إن الله حليم ستار “.
لم يكن من المعقول أن أودع القرية الذكية قبل أن ألتقى بعمدتها، السيد بيسو ذكاوة، فقد كان ما يشغل بالى حقاً هو هذا الإعلان الموجود فى كل مكان عن قرب تشغيل الأوتوبيس الذكى ليربط بن المدينة وبين ضاحية 6 أكتوبر، ووجدتها فرصة لأن أساله شخصياً كأكبر مسئول فى البلدعن حقيقة الأمر، وبالمرة أشكره على حسن الضيافة.
فهمت من الرجل أن هذا الأوتوبيس أعجوبة القرن الواحد والعشرين، فهو يسير بدون سائق ولا كمسارى، وكان لابد لى من تجربته، ووجدت أن الرجل لم يعط هذا الأوتوبيس حقة كاملاً، فمجرد صعودك إليه، يقوم بالترحيب بك من خلال ميكروفون داخلى ” أهلاً أستاذ فلان، إزيك وازاى المدام، وأخبار الكتاكيت الحلوين فلان وفلانة أيه؟ “، ثم يقوم بتعريفك بباقى الركاب فرداً فرداً، وطبعاً لن يسالك عن وجهتك وستجده متوقفاً من نفسه فى المكان الذى تريد الوصول إليه، ويودعك وداعاً حاراً، وقبل أن تسأله عن أجر التوصيلة، يقول لك “خليها علينا المرة دى يا باشا”.