نعم مهما كانت ادعاءات الاتحاد الدولي (فيفا) يدعي عكس ذلك في العلن فبكل تأكيد كرة القدم مختبر لصناعة السياسة ولنا في ذلك بعض الأحداث التاريخية منذ بدء التاريخ ولكن دعنا عزيزى القارئ نتحدث اولا عن ماهية الرياضة وبدايتها فهي واحدة من أهم مظاهر الحركة التي يهتم بها الإنسان ويشجع عليها المجتمع منذ بدأ الخليقة، واستعملت الرياضة لتحقيق أغراض متعددة لإظهار القوة والحماية الشخصية كون الحياة كانت تعتمد على القوة البدنية والأقوياء هم الذين يمثلون المناصب العليا في الدولة
الرياضة عرفت بأنها “عبارة عن أنواعا مختلفة من النشاطات الرياضية التي تهتم بجميع الأفراد من حيث جنسهم وميولهم واحتياجاتهم وأعمارهم. أما السياسة والسلطة فقد عرفها (عويس،1994) عن بأنها “القدرة على التحكم في الفعل والتفكير وميول الأفراد” ، وهذا يعني أن الرياضة كتنظيم وجهاز إداري أولا يجب أن يخضع لنظام وسلطة وقوة الدولة ولا يمكن تحقيق أغراضها بمعزل عن الأحداث السياسية التي تمر بها الدولة. أن التطور العلمي والاجتماعي والصحي وتطور العادات والتقاليد عوامل أساسية في تطور الرياضة والانجاز ، فالعلاقة بين الرياضة والسياسة لا يمكن الفصل بينها كونها علاقة تبادلية لبلد ما على المستوى الداخلي والخارجي. فعلى المستوى الداخلي نجد توازنا في قوة العلاقة بين الرياضة والسياسة أي أن قوة التأثير للرياضة على سياسة الدولة الداخلية يقابلها نفس قوة تأثير السياسة ورجال الحكم على دفع مسيرة الحركة الرياضة إلى الأمام والقيام بإظهار تسهيلات مادية ومعنوية لتنفيذ المشاريع الرياضية ، وخير مثال على ذلك المنشآت الرياضية التي أقيمت في مصر وبدأت بملعب الإسكندرية عام 1929ثم تاله ملعب سوهاج عام 1930 اما على المستوى الخارجي (الدولي) فنجد أن الدول تستخدم الرياضة كوسيلة لتحقيق بعض أهدافها السياسية كتحسين العلاقات بين الدول ، كما حدث في أوغندا وغانا إذ اعترف السياسيون باستقلالها بعدما عرفوا دور الرياضة الهام في التقدم القومي والرفاهية العامة للمواطنين فهذا يؤكد بوجود استثناء قوي وعامل هام لتضامن المجتمع وهي (الرياضة) أداة ناجحة لكسر الحواجز الاجتماعية الموجودة في المجتمع سواء كانت دينية أو عنصرية ولهذا أصبحت الرياضة من العوامل المهمة المعترف بها للتقدم والرقي”.
أن المفاهيم الفلسفية التي نشأت عليها الرياضة والحركة الاولمبية وبين السياسة العامة للدول منذ عام 1370ق.م أقام بيلوسين حاكم شبه جزيرة بيلويونيز كما تقول الأسطورة احتفالات اولمبية في مدينة اولمبيا . حيث كان هناك شرطان مهمان لإقامة تلك الألعاب ويمثلان جوهر الفلسفة الاولمبية والرياضة الأول: كان عقد السلام مع ملك اسرطه ، والثاني : تقديم الذبائح تخليدا للإله هركليس
نأتي لكرة القدم التي تعد هي العمود الفقري لاقتصاد العديد من الدول وأداة سياسية لحكام ورؤساء دول كثيرة فما يدعيه الاتحاد الدولى دائما هو عكس الواقع تماما في عام 2019 برغم الاحتياطات الأمنية الكبرى في مقاطعة كتالونيا الإسبانية في محاولة للنأي بمباراة الكلاسيكو بين الغريمين الأقوى في العالم نادي برشلونة وفريق العاصمة ريال مدريد عن الاحتجاجات الانفصالية، فإن تلك المحاولات باءت كلها بالفشل لأن السياسة لم تكن مطلقا خارج التنافس بين غريمين يمثلان السلطة المركزية من جهة وإقليما مقاوما في الجهة المقابلة.
ولا يمكن النظر إلى تلك الاحتجاجات كمجرد صيحات صادرة عن غوغائيين، فالأمر ليس مقتصرا على الشوارع والمدرجات، إذ لا يمكن التغاضي عن أن تلك المطالب الانفصالية في كتالونيا تلقى هوى ودعما عند بعض نجوم فريق برشلونة أنفسهم وأولهم جيرار بيكي. ليس هناك أفضل من هذه الدعاية!
وفي الحقيقة فإن العداء السياسي قائم بين الإقليم والعاصمة منذ عقود طويلة وكانت الرياضة والملاعب إحدى جبهات هذا التنافس منذ حكم الجنرال فرنكو الذي عرف بمناصرته للريال وإخضاعه للدعاية لحكمه.
والكرة قد تتحول إلى مواقف ومسار تصحيحي للسياسة مثلما شرح ذلك الصحفي الهولندي سايمون كوبر في كتابه “الكرة ضد العدو”، وهي مقاربة رسخها النجم الألماني التركي مسعود أوزيل لاعب أرسنال الإنجليزي عندما وجه عبر تغريدة، انتقادات صريحة لبكين بسبب الانتهاكات الممنهجة التي تتعرض لها أقلية الإيغور المسلمة في إقليم شينجيانغ.
لم تُحدث انتقادات دولية سابقة، سواء من منظمات حقوق الإنسان أو من المجتمع الدولي، وقعًا على الحزب الشيوعي الصيني مثلما كان الأمر مع انتقادات مسعود أوزيل. وبرغم التبعات الاقتصادية والمالية لتصريحات اللاعب على نادي أرسنال في السوق الصينية فإن ذلك لم يمح آثار التشهير السياسي بما يحصل في الإقليم الصيني والذي سوقته كأفضل ما يكون تغريدة أوزيل.
ومن الغباء الحديث عن فصل يبدو وهميا ومنافيا للتاريخ بين الرياضة والسياسة، ليس فقط بالعودة إلى الدعاية الكلاسيكية في فترة حكم فرانكو أو الصعود النازي في أولمبياد برلين لعام 1938 مثلا، ولكن حديثا جسد رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني هذا التشابك المحكم منذ ثمانينات القرن الماضي عندما جمع بين رئاسته لنادي ميلان العريق ومنصبه السياسي وكانت لهذا التقاطع كلفته من الفضائح المتراكمة في عالمي المال والسياسة.
كان للجناح الطائر الهولندي الراحل يوهان كرويف موقف مباشر من الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال خورخي فيديلا في الأرجنتين كلفه ذلك الغياب عن مونديال 1978 في قمة عطائه ونجوميته. وربما كانت لهذا الغياب كلفته عندما افتقدت الطواحين الهولندية أحد مفاتيح النجاح للفوز بكأس العالم أمام البلد المنظم للمرة الثانية على التوالي بعد خسارته نهائي 1974 ضد البلد المنظم أيضا ألمانيا الغربية آنذاك. ولكن الصحافيين المتخصصين كانوا قد علقوا بالعودة إلى أطوار البطولة بأنها كانت في كل الأحوال مهيأة بالمقاس لفوز الأرجنتين والتسويق للنظام العسكري.
ومثل كرويف عرف أسطورة كرة القدم الأرجنتينية دياغو مارادونا كصديق وفي لزعماء اليسار في أميركا اللاتينية والمناهضين للإمبريالية الأميركية، الراحلين هوغو تشافيز وفيدال كاسترو وإيفو موراليس المستقيل، واليوم يقف بقوة إلى جانب الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو ضد الضغط الأميركي.
وفي صراع المعسكرات لا يزال العالم يستحضر المقاطعة الواسعة من قبل دول الكتلة الليبرالية لأولمبياد موسكو عام 1980 ردا على الاجتياح السوفياتي لأفغانستان قبلها بعام، وبالمثل قاطع الاتحاد السوفياتي الدورة التالية للألعاب الأولمبية في لوس أنجلس الأميركية عام 1984، وهي المدينة الوحيدة التي رشحت لاستضافتها.
لقد خصص الصحفي الهولندي سايمون كوبر كتابه “الكرة ضد العدو” للتأكيد على الدور الثقافي والسياسي الذي تلعبه الرياضة الأكثر شعبية في العالم، إذ بينما كان الهولنديون يحتفلون بشكل هستيري بفوز منتخبهم التاريخي ضد “العدوة” ألمانيا في نصف نهائي أمم أوروبا على أرض ألمانيا عام 1988، يذكر سايمون في كتابه كيف ألقى سكان أمستردام بدراجاتهم في الهواء صارخين “لقد استرجعنا دراجاتنا”، في تذكير بأكبر سرقة دراجات هوائية ارتكبها الألمان حينما صادروا جميع الدراجات الخاصة بالهولنديين أثناء الاحتلال النازي.
بل إن الصحفي الهولندي يستحضر مزهوا إحدى الأناشيد التي أطلقها الهولنديون في المدرجات الألمانية “في 1940 جاءوا.. في 1988 جئنا” كناية عن اجتياح الهولنديين بألوانهم البرتقالية مدرجات ملعب هامبورغ في قلب ألمانيا حتى بدا الأمر وكأن المباراة تلعب في هولندا، ردا على الاجتياح النازي لهولندا عام 1940.
يريد سايمون التأكيد على أن كرة القدم ليست مجرد لعبة على مستطيل أخضر بل إنه لم يتردد في وصفها في كتابه بـ”الحرب” وفقا لما عاينه في زياراته وتنقلاته لدول العالم، وهو في هذا يشبّه فوز هولندا على ألمانيا بفوز إيرلندا على إنجلترا بكل ما يختزله ذلك من عداوة سياسية وتاريخية بين البلدين.
يثبت التاريخ عبر الكثير من الوقائع عكس ما تدعيه الفيفا والاتحادات الكروية من فصل غير واقعي لعلاقة الترابط بين الكرة والسياسة والحال أن الكرة باتت منذ عقود أحد أذرع الدبلوماسية الدولية لفض النزاعات السياسية وبمباركة من الاتحاد الدولي للعبة نفسه.
نجحت هذه الدبلوماسية الناعمة في أن تمهد لأول لقاء بين زعيمي تركيا وأرمينيا على مدى نحو 100 عام على خلفية العداء التاريخي بين البلدين والجراح المتوارثة عن مذابح الأرمن أثناء الحكم العثماني، والمناسبة مباراة ودية بين المنتخبين عام 2008 في يريفان حضرها آنذاك الرئيس التركي عبدالله غول والرئيس الأرميني سيرج سركسيان.
والكرة كانت جزءا من عمليات التقريب بين دول مجلس التعاون الخليجي في أزمة قطر وجيرانها خلال بطولة كأس الخليج التي احتضنتها الدوحة بأن تم رفع حظر تنقل الأشخاص جزئيا، حدث هذا بترحيب صريح من الفيفا في مسعى لتذليل العقبات اللوجستية في بطولة كأس العالم لكرة القدم المقررة بقطر عام 2022.