قلَّما نجد بيانًا شافيًا وافيًا عن إشكاليّة معينة أو مسألة عقيمة تشغل مداركنا وأهوائنا لوقتٍ مديد في عصر ما قبل الانترنت أو شبكات التواصل الاجتماعي. الى أن قشعت أنياب العقول عن ثغرات استفهامية تكمن في موقع الكتروني يدعى فيس بوك وكان المغزى منه بناء بوتقةٍ تعارفيةٍ بين طلبة خريجي الجامعات يرفق صورة كل واحدٍ منهم بجانب إسمهِ ليتذكره الآخرون ولا يُنسى حين تفرقهم مُثقلات الأيام.
إنَّ تكأكُأَ الأشخاص حول تلك البوتقة الخصبةِ المليئة بالحروف المثقلةِ والمفاهيم القابضة والمشاعر المكبوتة جعلت المرء ينشغل بحياةٍ إفتراضيةٍ بعضَ الشيءِ لأرى نفسي مخبئًا خلفَ غرفةٍ بجدارٍ أزرق تصاحبها الغموض بين شمس المعرفةِ وظلمة الشعور في فقرة نرجسية تحتل سويعات من عُمر المرء اليومي لتكون حصيلة المكوث أمام جداري الفايسبوك تعادل ثُلث عامٍ خلال العام.
فابتعدنا بهيمنتنا عن وادي الحياة والمتعة العائلية في تجميع الأفراد في بوتقة الحياة الحيّة دونًا عن محتوىً إفتراضي شاذ الفرع.
“لا تدع النحلة تقرصك، لكن اياك أن تتنازل عن شُرب عسلها”
هي قاعدة لا بد من تطبيقها داخل حرم الفايسبوك. “إذا اتكأت على معلوماتيتهِ وتنازلت عن نفاقهِ ربما تسلم من جهنميته”ِ.
والبعض لا يُخيّل اليه أن عمره يضيع هباءً وهو داخل محيطه الأزرق لرِفعة ناصيتهِ بين أصدقاءٍ تجمع الأرقام والاعجابات ومتسلقي الجداريات وسارقي الحسابات ومبتذي الفتيات القاصرات وانتشار الأفكار السامة والأفلام والسيناريوهات الكاذبة والقدرة على الاعتذار بشكل انسيابي لا يُرى على المعتذر أثر اللوم والندم لستر ملامحه خلف الحروف البارزة داخل رسائلهِ أو تعليقاتهِ أو منشوراتِهِ الى غير ذلك.
نبستُ الى خليلي الذي ناقشت معه بموضوعيةٍ هذا الأمر فأدلفت اليه لأن يصل الى أكنة اشكاليته أن يصوّب بعدسته نحو هذا العالم الأزرق ليرمق اليه عن كثب، وكان أمامنا أحد الأسئلة؛ ما مدى تأثر هذا المجتمع الإفتراضي على حياتنا؟!
_ولعل صديقي اكتفى بالصمت!.
بينما أردفت الكلام عن ما وجدته في هذا العالم بعدستي.
اتجهت يمينًا مصوبًا عدستي هناك لأرى موسوعة أدبية تشيب لها وجدان طالبي العلم. حقًا انه إرث ضخم من معلومات وكتب ومراجع كُلها مجانية ليتسع صدر الطالب بالكثير والكثير من القراء والباحثين واجابات لجميع مناهِله وعَرنين المراجع رغم ثقلها، وهنا وجدت تعليمًا مجانيًا ومجاميع شبابية للخيريات والتبرعات، مجموعات تطوعية تظهر مدى الجمال والشيّم وتُظهر لنا هؤلاء القئولين الصموتين رُحباء الطلب حُلوي الشمائل، لأطوف في يُمنتي فأجد متطوعًا أعطاه الله من علمهِ القليل ولكنه حريص على تعلُمه للآخرين؛ فيصبُّه في مقالاتِهِ صبًا تعلواْ بها هامته داخل هذا المجتمع. وأجدُ أهدابًا رفيعًة خفيفة البِدوْ مهذبة تنشر الاسلام وصحيحه وقرآن الله وسنَّة رسوله.
في هذا العالم النيِّر أُهيئ ذاتي للغسل ورفع جنابة الجهل والتيه لأستقيم داخله وحبذا أن أكون جزءًا آماده فأنبس بما اندثر داخلي لأصل الى أهداب الثبات.
واذ بي في تمتَمَةٍ مكفهرة بعد تذكر ما أولجت بِه حين أدلفت الى يسار الجدار لأجد مهزلة تصيب طالبي الاستقامةِ قبل هؤلاء الأهتميين؛ فأجد صعلوقًا يتابِع بحذر حسابات أفراد ليقوم بسرقتها ونشر ما لا يمكن نشره، وأجدُ في سهرات الليالي شابٌ يدّعي العفاف لفتاةٍ في العقد الثاني من عُمرها لينشر لها الحُب بين صور القلوبِ وأغنية هزيلة سافرة فتضعف الفتاة خلف شاشتها وتقاوم نقاءها في سبيل المتعة لتجد نفسها يومًا أمام وحش من أشباح الشبكات قد أوجمها بعد أن اضمحلت فأخذ منها صورها العارية وربما قد أوقع بها في احدى الحدائِق العامة!.
ولا أنسى الحسابات التي كانت تُدعى “فضائح مدرسة البنات الاعدادية” والثانوية وغيرها لأجد نفسي أمام هتكٍ لأعراض فتيات حتى وصل الأمر الى جلسات عُرفية وعراك بين هذا وذاك على ما تم عرضه لنجد فتياتٍ امتنع عنها الخطَّاب الآن بسبب فضيحتهم تلك وانعزالهم عن أصدقائهم لأن أهل أصدقائهم منعوهم من التودد اليهم خشية اللبس والنبس عن ماهيتهم.
أميل بعدستي قليلًا لأشاهِد بروز جيل جديد مليئ بالشبهات والسفه والالحاد، لأجد منهم من يطعن في الدين والعقيدة دون فَهم أو اطلاع، وأجد كاتبًا عنصريًًا وآخر يدَّعي الكتابة ولا تجد في حبره ما يدعوك لمتابعتِه، وأجد المثاليين الجهلاء عديمي الحبكات في أبياتِهم ومقولاتهم يتبعهم مُريدين على أبصارهم عمى.
وهنا أيضًا مَن تبيع جسدها ابتغاء مرضات أحد الزبائن لترى أيهم يدفع أكثر من أجل المزيد.
عدستي يملؤها ضباب الشمال وبها الكثير من الشتائم كم أوَد اخبارك بها صديقي ولكن تستوقف فاهيَ الشِيَّمُ!.
بينما أعدل عن النظر بواسطة العدسة اذ بي أجد شابًا منعزلًا عن الناس طالما كان خجولًا، وفاشل اجتماعيًا جدًا. أجده فُكاهيًا عبر منشوراته وتعليقاته فأصابُ حينها بذهول كيف لهذا أن يكون ذاك؟!
ربما يفتقد الى ذلك ولا يجد من يشجعه فأدلف الى هذا المجتمع ليجد نواقصه وما يتمناه في واقعه الذي عجز عن فِعله. وأجد شابًا أحتسبُه أنا! وجد نفسه محاطًا بعالم كان لا بُد له أن يدَّعي المثالية والحكمة رغم عدم ثبوتها في واقعه ليجد نفسه أمام حالة ازدواجية تمنعه من وضع مفاهيمه الواقعية والإفتراضية في آنٍ واحد ليخرج مجتمعًا انطوائيًا منعزلًا يفتقر الى سمات التواصل الحقيقية التي تكمن في صلة الأرحام والجلوس مع الأصحاب وزيارة الرفقاء. فشذذت نفسي من هؤلاء بأن اتبعت شخصيتي الافتراضية حتى صارت واقعي!.
بينما أرى أنّ تأثر هذا المجتمع بين شفتي حفرتين احداهما الى النور وأخرى الى الظلام، من الصعب جدًا الاستغناء عنه لكن من الواجب أن نتعلم فنيَّات استخدامه فلا نظلم واقعنا به لنميل بأولوياتنا نحو واقعنًا أولًا ومن ثم نتصفح افتراضيتنا.
أما عن اليمين والشمال فَلَكَ حق الاختيار. ومن غير المعقول أن لا يفهم المرء مراده؛ فالجميع يعي الصحيح والخطأ، والخطأ في أكنته لذة ان أصابت مضمحلي البصيرة قد يصابون به. لذلك كن ثابتًا لا تنساق فتكن أشبه بعَرْد يحمل أسفارًا.
وأتركك صديقي بين أن تختار
بين الواقعية والافتراضية وبين يُمنتك ويُسرتك. بين أن تكون حقيقيًا أو مُزيفًا ؟!
أما أنا فاخترت الواقعية والافتراضية معًا بنِسب أضعها أنا، وأما يَميني فكان دائمًا ما يشد أذري فاستسغت بِه، وأعلنت انحياز جوارحي من حضيضِهِ الى عرنينِه