ليس هناك من قرار للحزن او الانفعال .. لا اعتقد انه هناك احد يقرر ذلك .. لكنها موجات تجتاح القلب بين وقت وآخر .. ضاربة بحصون النفس والعناد والقوة والتحمل عرض الحائط .. الموجع في الأمر أن عامل المفاجأة يلطمك لطمة قوية تجعلك عاجزاً أمام تلك الموجة العاتية فتجدها هادرة تحملك يميناً ويساراً وأنت بلا حول ولا قوة .. وكأنك بلا تاريخ ولا زاد يجعلك تثبت أمامها.
لطمني خبر رحيل الخالد أحمد خالد توفيق .. وبشدة .. كانت مفاجأة تفوق كل احتمال وصبر وعناد امام الأحزان أتميز به .. كانت مواجهة غير عادلة ولا رحيمة مع حزن تفجر بشكل لم اتخيله انا في نفسى .. مواجهة ألقت بي في جب حزن عميق لا قبل لي به ولا قدرة على الصمود .. عهدت في نفسى عنادا شديدا امام الأحزان وكبرياء أمام الصعاب .. عناد طفلة لم تكبر أبدا ولن تكبر .. تأخذ موضع الخصم اللدود للأحزان .. وكبرياء امرأة خبرت تحمل الصعاب فصارت تلالاً من الرمال الضعيفة تذروها رياح الصبر والجلد واليقين برحمة الرحمن الرحيم .. لذلك كان حزني يلازمه دهشة كبيرة لما لحق بي من وجع فاق حد وصفي وتخيلي.
لم اكن ادري هل أبكي عراب تلك السنوات ام ابكي السنوات ذاتها .. لم اميز كم التأثير الهائل الذي أثره بي هذا الرجل الا عندما وجدتني أبكي بكاءا مريرا اعجز عن قطعه او التوقف عنه .. اتوقف قليلا وأهدا .. ثم اعود وابكي.
أبكى سنوات بريئة كان كل الهم فيها الحصول على العدد الجديد .. لن انسى ذكرياتى الاثيرة مع شقيقي الصغير التي لطالما تذكرناها ونحن نبحث عن الجديد ونتحرى موعد وصوله للمكتبة حتى ان وصل تلقفناه بشغف ولهفة كانت تفوق كل شيئ .. لهفة كانت تلخص لهفتنا للحياة في تلك الفترة .. احببنا ذلك العجوز فيه .. كان بشريا بامتياز .. علمنا انه ما من بشر معصوم ولا خال من العيوب .. بل نمتلئ كل العيوب ونحب بعضنا البعض بتلك العيوب وتلك الندوب التي تطفو على سطح الروح .. كانت اول صدمة لي بحياتى حين انتصر الشر في احدى النهايات واذكر انى بت ليال انتظر الجزء القادم الذي ينتصر به الخير وينتهي الشر .. لم اكن ادري ايها الغريب انك تدربنا على خيبات الحياة الحقيقية وخذلانها وكراهتها في بعض الاحيان .. لم اكن ادري ايها الغريب ان الخير والحق ينتصر لا محالة لكننا ربما نكون غير موعودين في بعض الاحيان بحضور ذلك كما ذكرت.
كلما ذكر احد مسخ الايام وربما قسوتها الغير مبررة بأجيال تائهة مبعثرة لم تدرك فرصتها الحقيقية بعد .. قلنا اننا لازلنا نملك بعض الرموز .. بعض الحوائط التي تصد خبل الايام وعبثها .. كنا نطمئن فهناك من هو ثابت وقابض على جمرة رأيه .. هناك من هو عظيم ومتواضع تواضع يرهقك ويربكك حقاً .. كلما قست الايام كنا نستعين عليها بالسخرية التى تعلمناها منك انت وليس سواك .. كان شقيقي كلما تحدث معي باحدى شفرات رفعت اسماعيل ضحكت وشعرت انه سرنا الاثير .. سرنا الذي لا يفهمه سوى جيل عشق هذا العجوز الضعيف المدخن الموسوس رفعت اسماعيل.
لقد وضعنا رحيلك في مأزق شديد .. لا ادري ماذا نحن فاعلون فيه .. رحل رمز قوي ثابت .. فهل يكون الأخير؟ .. هل تخلو الحياة من الصادقين ام انهم يتوارون في ضعف مخز ويكرهون المواجهة والبوح بالحق؟ .. هل تخلو الحياة من حملة اعلام الصدق والحكمة والفروسية؟ .. هل نستسلم بعد رحيلك ايها الغريب فلا نحافظ على ما علمتنا اياه وما لقنتنا اياه في كلماتك التي استقيناها صغارا في سن مبكرة حفرت في وجداننا الكثير؟!
كنت كلما التقيت بأحد ينتمي لذات العالم تمازجنا فورا وشعرت أنه قريب يعلم كيف افكر ويمتزج بحدود خيالي ومزاحى الساخر .. اكتشفت اننا كثيرون .. كثيرون للغاية … وجدت انه لك ابناء في كل مكان يدعون لك ويبتهلون ان تكون الجنة مصيرك.
لم اكن ادرى ايها الغريب الصامد انك ستستحق وعن جدارة لقب الغريب الذي جاء ليعطينا الكثير من الفلسفة والحكمة ودروس الحياة، ثم ترحل فجأة، معلناً انتهاء الدرس، وتاركاً إيانا لا نعلم كيف نغلق هذا الباب العميق الحزين الذي فُتح في قلوبنا.
لم اكن ادري ايها الغريب انك لم ولن ترحل عن عالمنا .. لكنك فقط خطوت خطواتك الاولى في عالم الخلود .. هنيئا لك بعالمك الذي سينيره كل حرف صادق سطرته وكل موقف قوي وقفته وكل حكمة سقيتها قلوب من حولك .. وأعاننا ربنا على أقدارنا في تحمل أيام ليست هى الأفضل لكننا نأبى أن نعترف ولن نعترف .. فنحن أحياء .. نقف في مواجهة واقع ربما لا نحبه كثيراً لكننا سنواجهه لا محالة فالضعف ليس خياراً والهوان ليس ملاذاً .
ستظل لمحة حانية بالقلب تتذكرك في قلوب الجميع سنظل نحملك ونحمل كلماتك ونحبها.
سنظل نتزود بذكرى تلك الأيام الخوالي التي كلما تذكرناها تذكرناك جزءا من براءة الطفولة وتطلع المراهقة.
سنظل نحبك ونتذكرك ونرسل لك كل الحب والامتنان الى الابد … كما ذكرت في كلماتك الخالدة…
ـ ماذا؟
ـ ستظل تحبني للأبد؟
ـ حتى تحترق النجوم وحتى .. تفنى العوالم ..
حتى تتصادم الكواكب، وتذبل الشموس ..
وحتى ينطفئ القمر، وتجف البِحار والأنهار ..
حتى أشيخ فتتآكل ذكرياتي ..
حتى يعجز لساني عن لفظ اسمك ..
حتى ينبض قلبي للمرة الأخيرة ..
فقط عند ذلك ربما أتوقف..
ربما ..