لطالما راودتني ظنون مؤرقة حول رغبة البعض في وجود فرعون يقدسونه، رغم انسحاق الفراعين منذ أزمان .. إلا أنهم لا يتوقفون عن البحث برغبة محمومة عن كيان أو ربما هيكل يمثل شيئا يقدسونه ويضعون حوله المحاذير والأسلاك الشائكة ويبتدعون من أجله الخطوط الحمراء الوهمية .. شي غير قابل للمساس .. شخص .. فكرة .. طريق .. طريقة .. أي شئ يحمل أوزار أفكارهم ورغبتهم المحمومة في وجود مقدسهم الوهمي!
يظهر لي بأن ذاك ربما يكون احتياج شخصي لديهم يمثل تكوين ما بنفوسهم التي أظنها تحتاج صيانة من تلك العلة، ويظهر لي أيضاً أن رفضي لذلك الشطط _ كذلك _ ما هو الا رفض نفسي لخلافه الحاد مع أحد أهم لَبِنات تكويني النفسي المُبكرة، والتي وضعها العزيز جداً الأستاذ المبجل “عثمان” أستاذي الذي لقنني قواعد اللغة العربية بالثانوية العامة، إذ كانت الأحاديث الحرة أكثر ما أحببت في حصص هذا الرجل .. ربما كان يشعر ببراءة تلك القلوب وحداثة تلك العقول، فغرس فيها كلمات من نور تسربت لعقلي ونفسي ولم تخرج أبداً.
قال الأستاذ “عثمان” يوماً (شوفوا .. أي شيئ في الدنيا دي قابل للنقاش والمراجعة وإعادة التقييم وإختلاف الآراء حوله .. أي شيئ .. وكل شيئ إلا قرآن الله الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، الصحيح منها فقط!) ببساطة لا مقدس الا الله .. هكذا تعلمت، من وقتها وحتى وقتي هذا بعد أن جاوزت الأربعين، لا أذكر أني رفعت شيئاً للقدسية ولا أربأت بشيئ عن النقاش والتفنيد والمراجعة، ولما لا فهو ليس قرآناً معصوما ولا حديثاً شريفاً أراجعه ثم أتأكد من سنده وصحته؟
ثمة شيئ أزعجني عندما لاحظت تعالي بعض الأصوات الحديثة بالتقديس للغتنا العربية بشيئ من الشطط والتزيد، لم أتمالك نفسي بمراجعة ذلك وتناوله ببعض التأمل.
بعضهم يجوب حوائط صفحات التواصل الاجتماعي متحرشين بمختلف الكُتاب والمؤلفين _ شاهرين سيف وهمي صنعوه يسمى سيف “الفصحى” _، سائلين إياهم عن لغة الكتب التي قاموا بتأليفها!
والحقيقة أنني لا أستطيع أن أصف مدى إحساسي بنطاعة المتسائل وبؤسه، إذ كيف تسول لأحد نفسه أن يراجع مبدعاً حول إبداعه! .. أكررها دائماً بأنها ذائقة يا صديقي .. تذوق أو ارحل .. ليس هناك من فعل ثالث مع الأعمال الإبداعية. فقط حالة من إثنتين .. إما أن يناسب العمل ذائقتك، فيكون جيداً برأيك، أو لا يناسبها، فيكون سيئاً برأيك أنت فقط أيضاً! إذ أنه ليس هناك شئ يسمى عمل أدبي سيئ وآخر جيد .. فقط إنها ذائقة يتناسب ما تقرأه معها أو لا، وليس هناك من دليل بليغ على ذلك إلا نقاشات القراء بمجموعات القراءة على مواقع التواصل والتي أتابعها بشغف ككاتبة وكقارئة أيضاً.
أذكر أني أصبت بالدهشة لدى إحدى النقاشات التي شملت أحد أعمال كاتب مصري وعظيم من عظماء الأدب وحاصل على أرفع الأوسمة، فإذا بإحدى القارئات تعلق كاتبة: (لا أطيقه ولا أطيق جو الحارة الشعبي الذي تغرق فيه أعماله!)، وللعجب أثنى البعض على رأيها! لا أنكر أني صُدمت حقاً من رأي القارئة واستنكرته كمُحبة للأستاذ، لكنى سرعان ما تجاوزت صدمتي الأولية عائدة لقناعتي بأنها ذائقة، إذ كيف لي أو لجميع من ناقشوها بأن يقنعونها هي أو غيرها ممن أبدوا عدم تذوقهم لأدبه أو حبهم لشخصه، بأن حديث الأستاذ ورواياته “مُنَزَلة”، والحقيقة أنها ليست كذلك. فقلت لنفسي تجاوزي ولا تتوقفي تلك ذائقتها ولا يملك أحد من أمر تلك الذائقة شيئاً.
يهمس بأذني صوت عاقل، طبيعي، غير متزيد يقول:
“اللغة للتواصل وليست للتفاخر”.
*****
على صفحة أحد أساتذة علم النفس ورواد الإدراك بعالمنا العربي، وهو رجل لا يمكننا إنكار تأثير كتاباته النابهة في تعظيم ملكة الإدراك ومراجعة عتيد الأفكار وتنقيحها لدى الكثيرين، وهو ما توضحه آلاف التعليقات والأحاديث التي أقابلها مع الكثيرين لدى ذكر أحد أطروحاته الواقعية الملهمة .. على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، كتب أحدهم معلقاً ومحدثاً الطبيب بأنه قد قرأ له بعض المقتطفات _ وليس كل الكتب بل فقط بعض المقتطفات _ وذكر هذا الشخص تعليقه الذي كتبه بعنجهية غريبة بأنه لاحظ من تلك المقتطفات، بأن الطبيب النفسي يكتب كتبه بالعامية وليس بالفصحى، ووجه الطبيب وطالبه بالكتابة باللغة العربية لجعله أفضل وإضافة قيمة للكتابات!!
والحقيقة، أنني أصبت بصمت من الصدمة ثم بنوبة من الضحك لدى قراءتي للتعليق، ثم تعجب، إذ أننا قد فرغنا الأشياء من أهدافها الأصلية، وذبحناها قرابين لآلهتنا الحديثة، إذ يبدو أننا قد قاربنا على مماثلة القدماء ممن صنعوا الأوثان وعبدوها من دون الله!
هُنا أحتاج من يرشدني، لربما فاتني شيئاً، إذ أنني لا أعلم الهدف من الكتاب، هل هو الوعي والإدراك، وتحسين الحالة النفسية العامة كنتيجة لإدراك مشكلات المجتمع عن قرب؟ أم أن الهدف من الكتاب هو الاستمتاع باللغة؟
هل الهدف من كتابة هذا الطبيب لكتبه، هو العلم والتعلم والوصول لوعي وإدراك أكبر عدد ممكن من القراء وتصحيح هذا الوعي؟ أم تقديم كتاب تتراقص به الألفاظ والمصطلحات على ألحان التقديس الوهمية، فتُمتعك؟!
لا أرى مانعاً من أن يكتب الطبيب بالفصحى، إن هو أراد، أو إن كان يشعر أنه سيوصل فكرته بشكل أيسر، لكن لا يجب أن نخرج عن إطار الهدف الحقيقي من الكتاب. هل هو الإدراك وتحقيق هدفه لدى وعي القارئ؟ أم مغازلة أوثان اللغة؟!
عزيزي .. إن كنت تبحث عن اللغة، فاركض يا صديقي لكتب الأدب الرفيع لغةً وشعراً وغيرها من فروع الآداب، وانهل وابتعد عن التحرش بكتابات الرجل، هو وكل من يكتب من أجل إنقاذ وعي العامة من الجُب العميق الذي سقط فيه لعقود.
أتأمل وأتساءل، عن هدف هؤلاء المتنطعين، هل هو الحجر على ذائقة القراء؟ أم إرهاب المبدعين فيكفون عن إبداعهم إلا بشروطهم المتزيدة؟!
يهمسبأذنيصوتعاقل،طبيعي،غيرمتزيديقول ..
“اللغةللتواصلوليستللتفاخر”
*****
حكى لي صديقي -وهو القارئ العتيد لكل ما يمثل الأصالة واللغة الدسمة والتراث الثمين والذي إن جاز لأحد أن يتعصب للفصحى فلابد أن يكون هذا الرجل- حكى لي عن ابنته الصغيرة والتي درست اللغة الانجليزيه بلكنة راقية أصلية منضبطة حين جمعه موقف هو وإبنته برجل عجوز تحدث بأحد كلمات الإنجليزية بلكنة ركيكة بها خطأ واضح فما كان من الفتاة إلا أن مالت على أبيها وقالت له أن ما نطق به الرجل به خطأ واضح فهل تصحح فأشار الأب لإبنته أن تصمت وتُرجئ الحديث في ذلك الأمر وفي طريق عودتهم سوياً أثنى صديقي على الإبنة المتفوقة التي تعرف قواعد اللغة الصحيحة فتساءلت الفتاة عما دفعه للإيماء لها بالصمتإذن فسألها هل وصل مقصد العجوز من حديثه؟فأومأت الفتاة برأسها أن نعم وصل وفهمه من حوله جيداً فقال الأب إذن كان الصمت مناسباً بدلاً من إحراج عجوز في سن جدك من أجل تصحيح اللكنة اذ ما الأهم في موقف كذلك؟ وهل التواصل وتوصيل مقصد العجوز كان الأهم أم تصحيح اللكنة؟ وأنا أيضاً أتساءل وأناشد العقول المستنيرة والقلوب البصيرة ما الأهم اللغة أم التواصل؟ما الهدف من اللغات من الأساس؟ ما الأهم حقاً البشر أم الجماد .. المشاعر والأفكار الإبداعية والتعبير عنها كيفما نتمكن ونستطيع أم قوالب وهمية يضعها أحدهم لغيره منتصراً لوهم يملأ رأسه!! فأنت مقيد أيها المبدع لا يمكنك التعبير عن أفكارك إلا وفقاً لكتالوج شطط عقل أحدهم!!
أي عبث؟؟؟؟
يهمس بأذني صوت عاقل، طبيعي، غيرمتزيد يقول:
“اللغة للتواصل وليست للتفاخر”.
*****
عزيزي المتزيد في تقديسك وتحيزك العنصري للغة…
ان أحببت اللغة لتلك الدرجة فاذهب واعمل مدرساً لها بأحد المدارس .. إرحل بين الأقطار لتعلمها لمختلف البشر.
فلتنشئ جمعيات ونوادي ومنتديات للحديث عنها ونصرتها في حربها الزائفة التي اختلقها عقلك الواهم.
افعل ما تريد لكن ابتعد عن المبدعين ولا تحدد لمبدع لغة إبداعه ولا ترسم له طريقاً تسير من خلاله رحلته الإبداعية، إذ أن من يتقنون الفصحى كُثرٌ يا صديقي لكن المبدعون قلة، فلا تخلط هذا بذاك.
إتقان الفصحى مهارة، أما الكتابة والإبداع يا صديقي فهي درب آخر يتطلب الكثير، وليس اللغة فقط، فذاك حصر مُخِل للغاية بمعاناة المبدعين. هل تعلم كم يعاني المبدع ليكتب؟ هل تدرك الإلهام والإحساس الذي يلهمه الله لأحدهم فيصبح كاتباً مبدعاً ولا يلهمه لغيره من متقني الفصحى؟
ربما يستطيع متقن الفصحى أن يرص كلمات سليمة لغوياً بجانب بعضها البعض، لكن أنّى له بإحساس الكاتب المبدع؟!
ألا تعلم أن الاحساس هو ما يدفعنا للكتابة؟!
ذلك الهاجس المجنون الذي يطارد كل كاتب مبدع بلا هوادة ولا رحمة.
سألني صديق النصيحة وهو يُحَضِر لكتابه الأول، وتساءل مفكراً بصوت عالٍ، بأنه لا يعلم إن كان هذا الكتاب سيخرج أم لا، فحكيت له قصة تركي لعملي المكتبي منذ أعوام واكتفائي بالكتابة وأعمالها .. يومها أذكر محاولات ربة عملي بألا أترك العمل وأن أستمر بالكتابة بجانب عملي كما دأبت منذ سنوات على أن أفعل ذلك .. أذكر أني قلت لها بأن الأفكار تطاردني وتقُض مضجعي، وأخبرتها عن عجزي عن الجمع بين الكتابة وأي شيئ آخر في الوقت الحالي!
قلت لصديقي، أن القول الفصل برأيي في قصة كتابك هي “المطاردة”، فإن طاردتك الأفكار والمشاعر .. إن طاردتك الكتابة وغلبت كسلك وقلة همتك، فستكتب ويخرج إبداعك .. وإن لم تطاردك فلك أن تنسى الأمر.
يهمس بأذني صوت عاقل، طبيعي، غيرمتزيد يقول:
“اللغة للتواصل وليست للتفاخر”.
****
صديقي…
ربما تعتبر مهارتك بالفصحى أحد انتصاراتك بالحياة .. لا بأس .. انتصر وافخر كما يحلو لك، لكن لا تستخدمه سيفاً على رقاب الآخرين، فهذا هوس يستلزم بحثاً، ومراجعة، وربما علاجاً لدى الطبيب النفسي الشهير الذي يزعجكم بكتبه ذات اللغة العامية والمبيعات المتصدرة لذائقة الكثيرين!
*****
منذ فترة وأنا أعمل بتقييم الأعمال الأدبية، واتخاذ قرار بصلاحيتها للنشر من عدمه، وهو ما أتاح لي قراءة كم كبير من الأعمال الأدبية الجديدة لأدباء سبق لهم النشر وكُتاب يسعون لنشر أعمالهم الأولى.
البديع بالأمر هو كم الإبداع الذي امتلأت به روحي، وكم السعادة بوجود كل هؤلاء المبدعين بأفكارهم المختلفة، ولغتهم الجميلة المترابطة، فصحى كانت أو عامية .. ثمة إبداع في الأجواء لا يمكن لأحد أن يوقف مسيرته.
فلندع من يبدع ليبدع كيفما يشاء، وكيفما يأتيه الإلهام، بفصحى أو عامية، فالمهم أنه “بالعربي”، يا سيدي “الفصيح” .. هو شأنه وشأن قريحته .. فمن أنت لتضع لغيرك القواعد كاتب كان أو قارئ؟! .. هذا سخفٌ وتنطع!
عزيزي .. انضج وتعقل، فلا فضل لكاتب فصحى على كاتب عامية، إلا في ذائقتك وخيالك الذي لا قيمة لتلك الفكرة إلا به، وربما يراها غيرك سخفاً غير ذا قيمة.
في النهاية نحن نتحدث عن الكتابة والقراءة، في وسط من المفترض أنه من العقول الحرة الراقية المنتقاة، فأنىَ أن يليق بتلك العقول أن تكون هي ذاتها من يُقدس الأوهام ويحجر على الآخر من المبدعين أو القراء؟!
أتمنى للجميع من المبدعين، مساحات من البراح الإبداعي، الذي لا حوائط ولا سدود وهمية تَحُده، وأتمنى للقراء براح من التذوق بلا وصاية عليهم من أحد المتسائلين بسيوفهم الوهمية: “بالعامية الكتاب ده ولا بالفصحى يا دكتور؟!”.
منى عبد العزيز