تابعت الفترة القريبة الماضية كماً غير قليل من الأحداث التي وجدتني أراها أفعالاً قبيحة فادحة لا يمكن تجاهلها او تركها تستشري فتزيد الواقع قبحاً واختلاطاً وعبثاً .. لا يمكنني سطر كل تلك الأحداث بدلالاتها لكني سأتحدث عن البعض هنا في محاولة للنقاش او التساؤل او التوضيح او ربما انقاذ ما يمكن انقاذه!
منذ اللحظة الأولى التي طالعت فيها ما سُمي بفيديو «فتاة التجمع» أو فيديو «أون ذا ران»، وأنا أشعر أن القصة لا تحتمل ولا تستحق كل تلك الجلبة، سألتني صديقتي يومها فقلت لها في عجالة، «المتحرش متحرش ولو تحرش براقصة والمغتصب مغتصب ولو اغتصب عاهرة»! وأسقطت الأمر من ذاكرتي ومن تفكيري كاملاً ولم أتحدث به مرة أخرى.
تابعت بعدها الكم المهول من ردود الأفعال وكأن الجميع مطالبون كالعادة للادلاء بدلائهم من فوق منصاتهم الاجتماعية فيما فعلته الفتاة، متناسين ان ما فعلته خاص بها وبواقعة حدثت لها وليس لهم!
ثم تابعت التحليل التفصيلي للفتاة وتوجهاتها وآراءها وخلفياتها والاتهامات المشينة التي وجهت لها، لتوضح انها فتاة خارجة عن تقاليد المجتمع «المحافظ»، وأنها تسعى للعيش كحياة الغربيين وانها مطالبة بالتعايش مع ذلك للنهاية بما في ذلك التعامل بـ«طبيعية» مع مطلب «عادي» كمطلب الشاب منها، اذ كان رأي أغلب من كتب انه لم يفعل شيئ مشين حين طلب منها شرب القهوة «بدلا من وقفة الشارع»، حسبما قال لها في الفيديو المسجل، وهو ما بررته الفتاة بأنها كانت تقف لتنتظر الباص الخاص بها!
تابعت ردود الأفعال الغاضبة في مجملها من الفتاة سواء من أنكر عليها فعلتها من الأصل، أو من رأى أنه من حقها الاستياء لكن ليس بتلك الطريقة اذ لم يكن عليها تصويره ونشر الفيديو .. ثم ظهرت الفتاة لاحقاً في عدة فيديوهات تبرر نفسها وتشرح الموقف والضغط الذي تعرضت له من الشاب ومطاردته لها، والتي انتهت بعدما اسقط في يدها بان تصوره وتقوم بفضحه وهنا تبادر لذهني صفحات شهيرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك قامت مجموعات بعينها بانشائها وتخصيصها لنشر صور وفيديوهات للمتحرشين، وهو أمر مستمر منذ عدة سنوات قليلة، وتابعنا على تلك الصفحات قصص وصور عدة لمتحرشين كُثر، وهو ما يعني ان ما فعلته الفتاة لم يكن غريبا او شاذا او جديداً، اذا انه امر حدث مرارا وتكرارا على صفحات التواصل الاجتماعي.
ثم انقلب المشهد العبثي انقلاباً هزليا للغاية، إذ ظهرت فيديوهات خاصة ببطل القصة المتحرش على شواطئ البحر الأحمر تارة يرقص وتارة يقوم بالعرض على سائحة بمرافقته لشرب القهوة فتقبل فيبتهج مظهرا ان السائحة قابلت طلبه «الطبيعي» بشكل طبيعي للغاية! ولم تقم بتصويره او فضحه!
ثم ظهرت الفتاة على شاشة احد الفضائيات موضحة سبب تصويرها للفيديو وفيديو آخر ظهر على فيسبوك وظهر به شاب آخر يحاول معاكستها واصطحابها معه وحين أدرك انها تقوم بتصويره فقام بالضحك وبذكر اسم احد صفحات فضح المتحرشين وسخر قائلا «كان نفسي اتشهر واطلع فيها»!
انقلبت الدنيا بعد هذا العبث، وبدأت بعض الاقلام الشهيرة والشخصيات العامة البارزة في الحديث عن الفتاة وحقها في فضح ما تعرضت له من تحرش، وانها لم تفعل ما تستحق عليه كل الغضب الشديد الذي حدث. وبدأت تلك الاقلام في مساندتها خاصة بعد ما ذكرته عن فصلها من عملها بسبب تلك الضوضاء المثارة حولها، وهو ما علق عليه شقيق الشاب المتحرش بانه غير سعيد بفصلها وانه على استعداد بالتحدث مع اصحاب العمل لاعادتها شريطة ان تعتذر لشقيقه أولا!!
للحق انني شعرت بالغضب من تلك الأقلام وتلك الشخصيات التي لم تعر الأمر اهتماما منذ بدايته، وان المساندة التي حصلت عليها الفتاة كانت بعد انقلاب الامور وانقلاب حياتها لجحيم جراء رفضها لسلوك الشاب معها! بل ان منهم من هاجم الفتاة ثم عاد وغير موقفه بعد ظهور فيديوهات الشاب!
شعرت بذات الغضب من نفسي بالمناسبة فأنا ايضا اكتفيت بإبداء رأيي للمقربين ونسيت الأمر تماما! وهو ما أراه اول فعل فادح قمنا به جميعا في تلك القصة، ألا وهو التجاهل والفُرجة وهو ما شعرت بفداحته لاحقاً حين صدمت بكل هذا الصخب حول حادث «محدود» كهذا.
والحق انه محدود بالفعل فلو قررت كل أنثى مصرية تمشي بشوارع مصر أن تسجل بأى شكل من أشكال التسجيل ما يحدث لها من لحظة خروجها من بيتها وحتى عودتها، لتفرغنا جميعا للتدوين ولم يعد لدينا وقت لفعل شيئ آخر!
أكثر ما ساءني هو تأخر إنصاف الحق _ وليس الفتاة _ فالحق أحق بأن يتبع، وشخصية الفتاة التي تم التحرش بها لا تنفي فعل التحرش ولا تغير منه، ويظل الفعل هو الفعل وهو شيئ يتطلب اخلاق رجال حقيقين وسط شيوع المنطق الفاسد في المجتمع واختلال الرؤية لدى الكثيرين في مشهد عبثي كبير فمن يدافع عن منطق الشاب مدعياً انه «طبيعي» و«عادي» ومن يتساءل بريبة مضحكة عن سبب وقوفها في الشارع! لاننا في مجتمع «محافظ» لابد ان تراعيه فمن أنتم بالضبط المتفتحين الذين ترون مطلبه عادى أم المحافظين الذين يستهجنون وقوف الأنثى بالشارع لفترة ولو كانت تنتظر وسيلة مواصلات تقلها لأى مكان؟!
الحقيقة اني لا اعرف تلك الفتاة ولا ذلك الشاب شخصيا، لكنهم اصبحوا رموزا لموقف مجتمعى مختلط مرتبك، يحتاج لكثير من الوضوح والتوضيح، فالحق أن أنصر من اختلف معه قبل أن أنصر من أتفق معه لأني أنصر الحق والحق فقط ليس الشخص أو الموقف .. فالتفكير بمنطق مجرد يحتاج الكثير من الحياد وهو منطق قد غاب عن المجتمع كثيراً للأسف، وهو ما أراه ثاني فعل فادح حدث في تلك القصة، حين ركزالجميع على شخصية الأبطال وتجاوز او تجاهل التفكير المجرد في الخطأ والصواب، ولو كنا فعلنا لوصلنا للحق والحقيقة في لحظات! ولتجنبنا لغواً كثيراً لا نحتاجه.
صدمت بعد قصة التجمع بأيام، بقصة أطفال ميت سلسيل بالدقهلية، الملائكة التى عادت أرواحهم لرحاب بارئها في مشهد تتبرأ منه القسوة ويهابه الشياطين! فمن يملك كل هذا الشر ليقتل هؤلاء الأبرياء بعد خطفهم من مكان لهوهم حيث كانوا يمرحون كغيرهم من الاطفال محتفلين بعيد لم يكتمل وفرحة غابت قهراً؟!
تخيلت في البداية اني سأستمع بعد فترة عن مجرم فعلها قطعا بذنب يخص أحداً في عائلتهم، فاذا بالخبر ينزل كالصاعقة علىَّ، فالأب هو الفاعل ولم تظهر التحقيقات بعد الملابسات! ولا أدري أي شيطان أغواه ليفعل فعلته؟ فحتى المختلين عقليا تأتي عليهم لحظات يشعرون بروابط الدم، وحتى الحيوانات الشرسة لا تؤذي صغارها، وربما صغار غيرها، فكيف بربكم حدث ذلك؟!!
وها هو فعل فادح آخر يضرب عقولنا وقلوبنا معاً وهل هناك أفدح من ذلك؟!!!
ثم اخيرا وليس آخراً، صدمني فيديو على أحد شواطئ الاسكندرية، لحادث قتل أحد رواد الشاطئ بعد مشادة بينه وبين شخص آخر قام بمعاكسة زوجته.
لن أعود لحديث عن التحرش والمعاكسة، واقول أنها حدثت للسيدة وهى بصحبة زوجها يلهون لهواً بريئا على الشاطئ في اجازة من حقهم، فلا هى ترتدى شيئا فاضحاً ولا هي تقف فى الشارع بلا مبرر، وكأنه ياللسخرية سبب مقنع!
ولن اتوقف عند فداحة إزهاق روح، وكم الاستهتار الذي حدثت به تلك الجريمة لكني سأتوقف عند «الكاميرا مان»، الشخص الذي وقف خلف كاميرا موبايله ليصور لحظات غرق الضحية فى دماءه على شاطئ البحر، والزوجة تنوح وتصرخ طالبة المساعدة والبؤس يتجسد في أبشع صوره و«الكاميرا مان» كل ما يهمه هو التصويروالتسجيل والنشر!
بربكم أي فعل فادح هذا؟! وأي بشر هو؟! وأي إحساس تجرد منه وهو أمام لحظة فارقة، لحظة خروج روح من جسد وبأبشع الطرق .. بالقتل .. وهو يصور؟!!! وهي ليست الحادثة الأولى بالحقيقة فمرض الـ«كاميرا مان» صار منتشرا بشكل لا يمكنني وصف بشاعته!
أما بعد .. أعزائي البشريين .. المصريين .. الذين أثق بتواجدكم بمكان ما تقرءون كلماتى وتتدبرونها .. ماذا نحن فاعلون؟ هل لدى أحد اجابة؟!!!
أفكر في كم الأفعال الفادحة التي صرنا نرتكبها كمجتمع خطى فوق انسانيته ورحمته بالآخر فصارت الانسانية ذكرى والرحمة مثار سخرية .. باتت الطيبة سُبة وفي الأغلب هي اشارة بالسذاجة وهوان الجانب!!!
أتعمق أكثر بالفكرة فأتقوقع أكثر بنفسي داخل دائرتي الضيقة، بما تحويها من أناس لازالوا يمارسون الإنسانية الحقة.
فزع وربما رغبة فى العزلة يتملكاني .. أسئلة محمومة تجول بخاطري في هستريا…
وماذا بعد؟
وما العمل؟
ولماذا وصلنا لتلك المواصيل؟
هل هناك أمل؟
أم على كل منا أن يغلق بابه عليه وأن يحتضن أحباؤه وأن يحمي نفسه بشتى الطرق وكفى؟!!!
أتساءل هل عزوفنا كمجتمع عن مراقبة مستوى الرحمة الذي انسحق لدى البعض هو «فعل فادح» ندفع ثمنه الآن ونحن نراقب جرائم وأخلاقيات لا قِبل لنا بها؟
سلسلة من البشاعات المتتالية لا نفعل شيئ تجاهها سوى المراقبة والذهول! .. وجدت أن كلمة «وأنا مالي» التي نرددها كثيرا ربما قد أغرت الكثيرين بالتمادي في غيهم وتجاهل وجود الباقين .. صار كل منا رئيس جمهورية نفسه بصلف وكِبر يرفض ولو الاشارة لنصح ما أو تعديل مسار!
لدي سؤال مشروع تماما .. هل ننتبه لمسئوليتنا الاجتماعية نحو المجتمع ونحاول انقاذه بشتى الطرق؟!
هل يستطيع كل منا توجيه من حوله ومن ينتمون لدائرته لأخطائهم بحق أنفسهم ومجتمعهم؟
هل تتسع دائرة الإصلاح لو بدأ كل منا بنفسه وبمن حوله؟
هل ينتبه كل منا للأطفال المتواجدين بدائرته بدءا من أطفاله ومرورا بأطفال العائلة والأصدقاء وان يسعى لجعل هؤلاء الاطفال نبت حسن لا نبت سوء .. أطفال يحظون بالحد المقبول من التربية والاهتمام لا الإهمال والتجاهل حتى نشعر ببارقة أمل في غد خال من المسوخ إن أدركناهم اليوم؟
ربما…
منى عبد العزيز
أغسطس 2018