— سبوتنيك الحبيبة —
– “في ربيع عامها الثاني والعشرين، أحبت (سوماير) للمرة الأولى في حياتها. كان حبًا عميقًا، إعصارًا حقيقيًا عصف عبر الحقول – مساويًا كل شيء في طريقه بالأرض، مُلقيًا بها عاليًا في الهواء. مزّقَها إربًا وحطمها قطعًا. لم تخمد قوة الإعصار ثانية أثناء مروره بالمحيط، دمر معبد أنجكور وأحاله رُكامًا، أحرق دغلًا هنديًا، النمور وكل شيء، تحول إلى عاصفة صحراء رملية فارسية، وطمر قلعة غريبة تحت بحر من الرمال.
باختصار، حب بمقاسات بارزة حقًا.
كان من أحبته (سوماير) أكبر منها بسبع عشرة سنة. متزوج.
ولعل من واجبي أن أضيف هنا أنّ مَن أحبته (سوماير) كان امرأة. من هنا كانت البداية والنهاية، إلى حدٍ ما.”
هذه هي البداية القوية جدًا لرواية (سبوتنيك الحبيبة) للأديب الياباني الشهير: (هاروكي موراكامي). من هنا وُلدت الحبكة.. ومن هنا بدأت وانتهت.
تتلخص الحبكة في انبثاق مشاعر الحب الفريدة لـ (سوماير) تجاه (ميو)، المرأة الفاتنة التي تكبرها بسبعة عشر عامًا. ومشاعر البطل الراوي تجاه (سوماير). هناك عدة خيوط سأشير إليها لاحقًا.
وهناك عدة ملاحظات يمكنُني استخلاصها من العمل، سأحاول جعل بعضها أكثر شمولية فربما كانت سمات عامة لأسلوب موراكامي نفسه:
1. يهتم الكاتب بالعلاقات الإنسانية الاستثنائية.. أو لنقل غير التقليدية. وهي سمة هامة جدًا ومؤثرة.
2. يعشق الموسيقى ربما أكثر من الأدب!
3. في هذه الرواية كان يتعمد التشويق خصوصًا في نهاية كل فصل.
4. يبدو أن لديه ولع خاص بالأنوف والآذان الصغيرة!، وبعض التفاصيل الأخرى كالماركات العالمية وأكل المطاعم.
أما النقطة الخامسة فلن أستطيع تلخيصها.. (سوماير) – إحدى الشخصيات الثلاثة الرئيسية – لديها طموح.. هذا يتضح لنا من البداية، الشابة مولعة بالأدب وتريد أن تصبح كاتبة كبيرة. ينصحها الراوي في مقطع بالغ الأهمية يحكي فيه قصة عن كيفية تشييد الصينيين لبوابات ضخمة منذ زمن بعيد، على مدخل المدينة، واضعين داخلها عظام الجنود البيضاء من المعارك القديمة أملًا في إحياء ذكراهم. هذا مثير للاهتمام لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فبعد الإنتهاء من البناء يأتون بكلاب!، يذبحونها ويرشون دماءها على البوابة. بمزج الدماء بعظام الموتى يمكن لأرواح الجنود أن تُبعث سحريًا. بحسب اعتقادهم.
كان هذا الرأي على لسان البطل انعكاسًا دقيقًا لأسلوب موراكامي. الكتابة لديه تشبه بناء البوابات الصينية. مهما كان تشييدها متقنًا ورائعًا، فهذا لا يكفي. يلزم شيئًا مختلفًا لا ينتمي لهذا العالم. أسماه نوعًا من (التعميد السحري). دماء كلاب جديدة!
عالم الرواية كان به شيئًا ساحرًا خفيًا، لا تدري مصدره.. ربما كان في رائحة الهواء، أو الملاط الذي يلصق أحجار الرواية بعضها ببعض. يتخلل كل شيء. حتى القصة القصيرة التي ضُمّن ذكرها بين الأحداث – مع ميو – كانت خيالية ساحرة بها ذات الطابع. ولهذا قلت (الكتابة) عند موراكامي وليس فن الرواية فقط.
الحدث الرئيس هو اختفاء (سوماير) الغامض.. ثمة خيوط فرعية أخرى كما ذكرت مثل علاقة المدرّس بـ (ميو).. علاقته بأم الطالب في فصله. وبالطالب نفسه.. ثمة خيوط تقاطعت ومواقف عابرة. ورغم أنها لكن بالغة الأهمية.
هذا يقودنا بشكل أساسي لعمق الرواية وساحتها الخلفية التي سنناقش فيها الفكرة.. ولكن قبلًا يستدعي إلقاء نظرة على العنوان الجميل. في العام 1957 أطلق الاتحاد السوڤيتي أول مركبة فضائية في العالم هي (سبوتنيك 1). دارت دورة واحدة حول الأرض ثم مضت لحال سبيلها!.. لا ندري أين ذهبت ولن ندري.. لقد سبحت في أرجاء الفضاء ولن نلتقي بها ثانيةً أبدًا. كم هذا محزن! وكم هو عبقري إطلاق عنوان كهذا على الرواية! الإشارة الأولى هي أن سبوتنيك (أول مركبة فضائية) / (أول حب). الإشارة الثانية هي أن سبوتنيك بالروسية تعني (رفيق السفر) / (ميو رافقت سوماير في رحلتها). الإشارة الثالثة هي أن مركبات الفضاء لا تعود أبدًا من حيث بدأت! إنها تتقاطع مع الأجرام السماوية، كواكب وأقمار وأقمار صناعية.. ثم يفترقان بلا عودة!
تناقش الرواية فكرة مُلهبة للأشجان بطبيعتها وهي العلاقات العابرة.. الغريبة والاستثنائية. ربما يمكننا القول أنها لَيْسَت (عابرة) شكلًا ومضمونًا، وإلا فلن تترك أثرًا يُذكر. ولكن ذاك المضمون الذي يحفر خندقًا في أعماق كل طرف، تاركًا مسألة ردمه للزمن وعوامل التعرية. يقشعر جلدي كلما تأملت معنى (الفراق الأبدي)، أو ذكرته.. يتقاطع الطريقان في مرحلة ما من رحلة حياة كل طرف.. من ثم يفترقان إلى الأبد.. كل واحد يكمل حياته تاركًا شيئًا للآخر وآخذًا منه شيء.. ذكرى أو صفة أو عادة جديدة.. أو ما هو أعمق.. جزء من روحك. لكنها ستنتهي. وقد أدرك البطل هذا في النهاية.
انتهت الرواية نهاية مواربة أو نصف مغلقة.. لسبب ما توقعت نهاية مفتوحة وكانت بهذا سترسخ في ذاكرتي أكثر وتثير فيّ الشجن أكثر وأكثر، (وربما هذا ما لن يرق لمعظم القراء)، لكنها انتهت نهاية صحيحة مكتملة وإن تركت الكثير من التساؤلات المثيرة. وبداية جديدة لعلاقة إنسانية حميمة مؤثرة.
(محمد عبده باشا).