واقفة الان وامامى ذلك البائس ينظر لى منهكا بعدما نزعت الكمامة عن فمه .. كان يشبه مدحت كثيرا ولكن ليس الى الدرجة التى تجعلنى أخلط بينهما
نفس القامة ،الشعر ،ولكن عينه الصناعية الجامدة جعلته شخصا اخر
شخصا اقرب الى الشاب فى الصور التى وجدتها فى الصندوق
نظر لى بعينه الوحيدة نظرة غريبة تجمع بين الشك والامتنان
أما أنا فكنت كمن تم مسح ذهنها تماما ليست فى رأسى أى فكرة او اى تفسير لما اراه الان ومن فرط حيرتى لم أنبس ببنت شفة فقط أنظر اليه فى غباء مرة الى عينه الزجاجية ومرة الى ساقيه الموضوعتان فى جبس بدائى يبدو وكأن من وضعه عاملا للمحارة وليس طبيبا
بادرنى هو بالسؤال فى لهجة متشككة وصوت عميق يختلف عن صوت زوجى تماما : هل أنتى زوجة سامح؟!
نظرت له فى بلاهة قائلة : سامح ؟أنا زوجة مدحت ..سامح مات
ثم استدركت فى ريبة : ام أنك انت سامح ؟!!! من أنت بحق السماء ؟
نظر لى بتفهم ثم رد ضاحكا ضحكة لا تتناسب مع الموقف ابدا
– هههههههههه أنا مدحت.. زوجك هههههههههههه
نظرت اليه فى بلاهة وفجأة انقلبت ضحكته الى شلال من الدموع يهطل من عينه الوحيدة
كم هو مؤلم أن ترى رجلا يبكي بكل تلك اللوعة حتى أننى لم أتمالك نفسى من الرثاء له .. دمعت عيناى ووجدتنى أربت على كتفه بشفقة وحنان .. رفع لى وجها بائسا وعينا محمرة من البكاء .. كان كمن يشتاق الى شخص يشعر به ويبثه الثقة التى تجعله يبوح بمكنون صدره مسح دموعه بيده وهو يقول : اذن فأنتى ضحية مثلى ..ياله من شيطان ماكر
لم اتحمل اكثر من ذلك وامسكت رأسى بين كفى وهتفت صارخة به : كفى كفى الغازا لم اعد أفهم شيئا تكاد رأسى أن تنفجر.. من انت ؟ومن هو زوجى ؟ وما علاقته بك ؟ ومن الذى سجنك هنا هكذا ؟ ارجوك ارحمنى من الجنون وفسر لى ما يحدث أرجوك أرجوك
لانت لهجته وقال : اهدئى سيدتى وسأشرح لكى كل شىء وأرجوكى لا تقاطعينى حتى أنتهى فالوقت قصير وقد اوشك مرعى على العودة من بلدته القريبة
فتحت عيناى متعجبة وقرأ السؤال فى عينى فأجابه فى الحال : نعم مرعى هو حارس الزنزانة الذى يحرسنى
وبدأ يحكى ما لم أتخيله فى أبشع كوابيسى
– أنا مدحت عامر البتانونى الابن الوحيد لعامر البتانونى تاجر الموبيليا الشهير والسيدة فريدة زوجته التى انجبتنى بعد عشر سنوات من العلاج فقد كانت تعانى مشاكل فى الانجاب وصبر والدى من حبه لها
حتى من الله عليهما بى فكنت ثمرة فؤادهما خاصة وانهما كانا مقطوعين من شجرة لا أقارب لهما الا من بعيد جدا ولا تربطهما بهم اى صلة لذلك كنت املهما فى الحياة
عشت طفولتى وصباى سعيدا مدللا حتى كان ذلك الحادث الذى افقدنى عينى اليسرى نتيجة طلق خرطوش طائش من بندقية صيد أحدهم فاضطر الأطباء الى تركيب عين صناعية لى لتعطينى مظهرا أقرب للطبيعى ولكننى كنت أمقتها وأمقت النظر فى المرأة بسببها لم اكن اريد رؤية نظرتها الجامدة البلهاء حتى أننى فى بعض الأحيان كنت أهشم المراة التى المح بها وجهى بالصدفة وأصبت بالاكتئاب ورفضت الذهاب الى المدرسة كنت وقتها فى الشهادة الثانوية وفى تلك الفترة بدأت علاقتى تتوطد بسامح
كان زميلا لى فى الصف ولطالما تندر الطلبة والمعلمين بالشبه الكبير بينى وبينه .. بدأ يتردد على المنزل ويحاول اخراجى من حالتى النفسية واحيانا ما كان يراجع معى الدروس التى فاتتنى وزاد ارتباط ابى وامى به فقد كانا يريان فيه المنقذ الذى قد يخرج بوحيدهما من حالته المتردية ولا انكر انه بالفعل ساهم كثيرا فى تحسن حالتى النفسية ..كان يجلس معى كثيرا، نخرج لنتمشى سويا وفى بعض الاوقات كان يبيت معى فى غرفتى .. وأخيرا .. أصبح فردا من الأسرة الى الدرجة التى كان والداى يتحدثان فى الامور المادية أمامه بمنتهى الاريحية
كنت ارى فى احيان عديدة لمعة الغيرة فى عينيه ولكنه سرعان ما كان يخفيها بابتسامة
وبدأت ألاحظ أن سامح يقلدنى فى كل شىء طريقة ارتدائى لملابسى ، تسريحة شعرى ، عطرى المفضل بل و مشيتى، حتى اننى عندما التحقت بكلية الألسن قسم لاتينى ولم يستطع هو بسبب مجموعه التحق بكلية اللغات والترجمه قسم لاتينى ايضا
ظننت ان ذلك حبا وتعلقا بى الى ان سمعته يوما جالسا بمفرده يحاول تقليد نبرة صوتى وعندها فقط شعرت ان الامر معه اتخذ شكلا مرضيا .. ومع ذلك كنت أشفق عليه كثيرا فهو وحيد، يتيم مات والداه وهو صغير ونشأ فى كنف عمه الى أن شب ثم مات عمه ايضا تاركا اياه بلا سند أو معين
كان يعلم اننى الوريث الوحيد ولكن مالم يعلمه ان والدى جمع امواله السائلة وجميع مصوغات والدتى وجمدها فى صورة سندات مالية واحتفظ بها فى خزانة فى البنك باسمى كان ذلك قبل الحادث مباشرة لذلك لم تأت فرصة للحديث فى الأمر
قاطعته متسائلة : اى حادث تقصد ؟
أجابنى بحسرة : الحادث الذى أودى بحياة والداى منذ عامين ونجوت منه بأعجوبة أنقلبت السيارة بنا عدة مرات بعدما انقطع تيل الفرامل
ونحن فى طريقنا الى القاهرة لعرض أمى على احد الأطباء
مات والداى فى لحظتها أما أنا فأصبت اصابة شديدة براسى
وظللت شهرا فى غيبوبة أصارع الموت ثم أفقت وانا لا أتذكر شيئا
لم يكن يزورنى سوى شخصا واحدا هو سامح والذى كان قلقا على بالفعل ويبدى لهفة غير عادية على استرجاعى لذاكرتى وكان يبذل قصارى جهده لمساعدتى على استرجاع مواقف معينة ربما ذكرتنى بشىء كان الاطباء والممرضات يعتقدون انه اخى للشبه الشديد بيننا الى ان حان موعد عودتى للمنزل وسمعت الأطباء يطمئنون سامح بأننى سأستعيد ذاكرتى بالتدريج ونصحوه بابقائى فى نفس منزلى
حتى تساعد ملامح المنزل على تذكيرى ما نسيت خاصة واننى مصاب كما قالوا بحالة تسمى بفقدان الذاكرة الهيستيرى وهى حيلة دفاعية يلجأ اليها العقل احيانا حينما يفشل فى تحمل صدمة ما فيمسح ذاكرته بنفسه مؤقتا حتى لا تصيبه الصدمة بالجنون وهذه الحالة مؤقتة وقد تزول بمجرد رؤية مايعيد الى ذهن المريض ظروف الحادث
اما قدماى فسيتحسنا بالعلاج الفيزيائى
فى ذلك اليوم اعادنى الى المنزل وبالفعل بمجرد رؤيتى للمنزل والشاطىء بدأت أتذكره رويدا رويدا ثم تذكرت سامح، ولكنى تعجبت حينما حملنى الى الطابق الثانى الذى لم نكن نستخدمه الا نادرا وازداد عجبى حينما وجدته قد تحول لنسخة طبق الأصل من الطابق الارضى الذى كنا نقيم فيه لا أدرى لماذا صمتت ولم أعلق بما يوحى اننى استعدت ذاكرتى؟
شىء ما جعلنى أفضل الانتظار لأرى ماذا سيفعل فسألته بلهجة حاولت جعلها حائرة : هل هذا منزلى ؟
رد بابتسامة مصطنعة : نعم هو منزلك ما رأيك ؟
وحينها فقط علمت ان فى الأمر ما يريب وان سامحا يخطط لشىء
وبعد دقائق حضر مرعى غفير المنزل كان جامد الوجه على غير العادة ويتعامل معى بلا مبالاة بل وبقلة ذوق
قال لى سامح ان مرعى سيقوم على خدمتى فى غيابه .. أومأت برأسى موافقا وتقوقعت فى غرفتى محاولا الهدوء وترتيب افكارى
لعلنى افهم ماذا يحدث ولم يتأخر الأمر كثيرا وساق القدر لى حديث بين سامح ومرعى فهمت منه ان لهفة سامح على استعادتى ذاكرتى ليست حبا لى بل رغبة فى انتزاع الرقم السرى للخزانة البنكية خاصتى والتى وضع بها ابى مبلغ كبير ومصوغات امى
وايقنت انه علم ذلك عندما عبث بجميع اوراق والدى فقد كان يتعامل بمنتهى الحرية طوال فترة تواجدى فى المشفى
شعرت بخوف شديد من سامح الى جانب حزنى على والداى وبمرور الوقت وبربطى بين الأحداث خمنت انه وراء تلك الحادثة مدبرا ان نموت ثلاثتنا ويستولى هو على كل ما تطوله يده ولكن بقائى على قيد الحياة جعله يبدل خطته وأن ابقاؤه على حياتى هو فقط حتى يحصل على ما يريد وبالتأكيد سيقتلنى بعد ذلك وينتحل صفتى فقد اصبح الان يشبهنى تماما خصوصا بعد ارتداؤه لتلك العوينات السوداء التى اخفت عيناه التى تميزه عنى
كان يأتى بصفة يومية ويجلس بالساعات محاولا تذكيرى بشى ولكنى اتقنت تمثيل دور الفاقد للذاكرة حتى بدأ يياس ويعاملنى بخشونة واضحة حتى انه ..
قاطعته وأنا غير مصدقة ان من يتحدث عنه هو زوجى المهذب الخلوق : وهل يفترض بى ان اصدق كل هذا الهراء؟ ان من تتحدث عنه هو زوجى وابو ابنتى كيف يكون بهذا الاجرام ولم الاحظ طيلة عامين ؟!!
ثم كيف تظل ساقاك مجبرتين هكذا منذ الحادث ؟
– بل أنا من كسرتهما له حتى لا يعاود الهرب مرة اخرى
انتفض جسدى كله وشحب وجه الرجل الراقد امامى حتى حاكى وجوه الموتى وهو ينظر برعب لمصدر الصوت خلف ظهرى
التفتت ببطأ وأنا اوشك على الاغماء لأرى زوجى حاملا ابنتى باكية بيد وباليد الأخرى شاهرا مسدسه فى وجهى قائلا بتهكم : لا يصح حبيبتى ان تتركين طفلتنا منفطرة القلب من البكاء وتصعدين للنكش فيما لا يخصك أيتها النكاشة الصغيرة
ثم أردف بخبث : عموما هى فرصة لتتعود على اختفائك من حياتها
صرخت وتقدمت لانتزاع ابنتى منه ولكن الشيطان وجه فوهة المسدس الى رأسها الصغير مهددا اياى بقتلها اذا دنوت خطوة واحدة
هتفت به : اتقتل ابنتك ؟ !!
رد بصوت كالفحيح : وأقتلك وأقتل كل من يقف فى طريق تحقيق حلمى اتظنين اننى سأسمح لكائنا من كان بتدمير كل مافعلته ودبرته فى لحظة ؟
تبا لكى لقد كانت الامور تسير على مايرام ..كان بامكانك ان تعيشى معى حياة مرفهة بعد انتزاعى لكلمة السر واستيلائى على كل شىء
طوال عامان وانا اعيش بشخصية مدحت أوهمت الجميع بشفاؤه استقلت من عملى وعدت بصفته وشخصيته الى عمله فى الجامعة وباشرت اعمال والده لم يكن له او لى من يفتش ورائى او ورائه وسجنته هنا فى حراسة مرعى الماكر الذى كشفنى منذ البداية وكان الحل تجنيده لصالحى بالمال وطيلة وجودى بالبعثة كنت اطمئن يوميا على السجين حتى اتتنى مكالمة من مرعى يخبرنى فيها بهروب مدحت.. عندما قلت لكى وقتها ان سامحا قد مات لم اكن اكذب فهروب مدحت وظهور الحقيقة معناه موت شخصيتى أنا الحقيقية وظللت اعانى اياما من التوتر والخوف حتى بشرنى مرعى بعثوره على مدحت الذى لم يقو على الذهاب بعيدا بسبب اصابة ساقيه وهنا اصدرت اوامرى لمرعى بكسر ساقا مدحت من جديد ورأيت عند عودتى انه من الضرورى بقائى بجانبه حتى اصل الى غايتى او أتخلص منه للأبد
كان من الممكن ان تنجح خطتى للنهاية لولا فضولك اللعين أيتها الحمقاء ،ولولا ثرثرة الغبى مرعى مع زوجته التى حاولت ارشادك للحقيقة عن طريق قريبتها ضاربة الودع
ثم وجه نظرة حنق ومقت الى مدحت وهو يصر على اسنانه قائلا :
و الان ايها المسخ الأعور ستبوح بكلمة السر والا قطعتك اربا
لم انتبه لمدحت أثناء حديث سامح ولم يره كلانا وهو يزحف ببطأ حتى وصل الى عصاه الخشبيه التى كان يتوكأ عليها للذهاب الى الحمام وبغتة أنقض على قدم سامح بكل قوته حتى اختل توازنه وسقط مطلقا صرخة الم .. طارت جودى من يده واستطعت باعجوبة التقاطها قبل اصطدامها بالأرض واحتضنتها ملتصقة بالجدار خوفا من عراك الرجلين المشتبكين كان سامح يفوق مدحت قوة بالطبع فالأخير مصاب وضعيف لذلك سيطر عليه الشيطان بسهولة وحاول الزحف للوصول الى مسدسه الملقى قريبا من قدمى ولكننى التقطته بيد مرتعشة ووجهته الى وجهه والدموع تغمر وجهى
نظر لى باستخفاف ثم قهقه ضاحكا وبدأ التقدم منى ببطء ناظرا فى عينى بثبات وهو يقول : اتقتلين زوجك ايتها النكاشة الشريرة وانطلق مقهقها مرة اخرى ولكن اختلط تلك المرة صوت ضحكته الكريهة بصوت طلقة المسدس التى خرجت رغما عنى واستقرت فى رأسه لتفجر مخه الشيطانى الخبيث
صدقينى ياابنتى لم أكن أقصد ولكن من جهة اخرى لو لم اقتله لقتلنى انا والمسكين مدحت الذى لم يكن له ذنبا سوى انه فتح قلبه وبيته لابليس ذاته
جرت تحقيقات كثيرة ومر وقت طويل حتى تأكدت النيابة من حقيقة ما حدث ولكننى لن اصمد طويلا أعرف ذلك ..فكل ماحدث كان فوق قدرتى على الاحتمال فأردت ان اسجل الحقيقة كاملة لعلك تعرفينها يوما حين تكبرين وتسمعين ان امك قتلت اباكى .. سامحينى يا ابنتى
أغلقت الفتاة دفتر مذكرات امها ومسحت دموعها التى اغرقت وجهها ناظرة الى الكهل الواقف امامها ينظر لها باشفاق والذى لم يلبث ان ربت على شعرها الحريرى بحنان ابوى وقال : لقد كبرتى الان يا جودى وان لك ان تعرفى حقيقة ماجرى حتى لا تظلمين روح امك المسكينة التى لم تحتمل فكرة قتل زوجها وابا ابنتها وماتت بعد شهور من ظهور برائتها وتركتك لى كى تكونين نورا لعينى الوحيدة تعالى بنيتى فى حضن عمك مدحت وامسحى دموعك الغالية
تمت ،،،