في الطريق إليك
جلست انتظر تحرك القطار …
وصلت قبل ميعادي بنصف ساعه كعادتي ..
تأكدت من وجود كل ما احتاجه معي …
زجاجة ماء .. كتاب .. بعض التسالي ..
تستغرق الرحله حوالي ثلاث ساعات …
بدأ المسافرون يتوافدون الي القطار …
كنت اجلس بجانب الشباك ولكنه لم يكن رقم تذكرتي ..
وتمنيت ان لا يأتي احد ليجلس بجانبي …
وظهر علي باب عربة القطار ..
رجل في أوائل الاربعينيات نظراته ومشيته توحي انه رجل عسكري ..
يرتدي بدله رمادي .. تشبه لون عينيه ..
وكرافته رمادي بخطوط سوداء تخبرك عن كلاسيكيته في الاختيار …
يشبه شين كونري في أفلام جيمس بوند ..
تعلقت عيناي به وهو يقف بجانبي ..
وألتقط أنفاسي بصعوبة .. وهو يبتسم برسميه ويقول حضرتك دا رقمي …
انا جنب الشباك .. رقم حضرتك كام ؟؟
وقفت وانا ارفع عيناي له فقد كان اطول مني بكثير نطقت بصوت خفيض : اه .. انا مفروض جنب الممر بس لو مش هيضايق حضرتك نبدل ..
ممكن اقعد انا جنب الشباك ؟؟
شعر ببعض الاحراج ورد : انا هحتاج اعلق الجاكيت ولو قعدتي جنب الشباك هيضايقك ..
ابتسمت في سعاده : لا خالص ..
خلع جاكيت البدله .. والتقطت أنفاسي رائحة عطره ..
عطر عتيق يمتزج فيه الغموض برجوله طاغيه متحكمة ..
افقت من افكاري علي صوته : اكيد مش هيضايقك الجاكيت ؟؟
ابتسمت وهززت رأسي نافيه ..
علق جاكيت البدله بجانبي … وشمر قميصه قليلا فظهرت عروقه النافره ..
فك الكرافت وطبقها في حرص ووضعها في جيب الجاكيت …
وانا انكمش في كرسيي كلما اقترب .. وأحاول ان ابتعد بعيناي عنه … حتي لا يقرأ هذا التوتر بداخلي …
هربت بعيناي الي الشباك ..
نصف الستاره المفتوح سمح لي بمراقبة رواد المحطه ..
مره اخري تسرب عطره من الجاكيت المعلق بجانبي الي رأسي ..
صناع العطور دائما يقولو ان لكل عطر تأثير معين في النفس ..وان العطور تستخدم لتحفيز بعض المشاعر ..
وان لكل إنسان بصمه خاصه فيتفاعل العطر مع كل شخص بشكل مختلف ..
أغمضت عيناي لحظات وانا احتفظ بعطره داخل أنفاسي .. لأحلل تفاصيله ..وكعادتي ابحث عن مشهد يجسد هذه التفاصيل …
بيت عتيق تحمل حوائطه تفاصيل فنيه تتميز بالبساطة … تراس واسع تمتلئ أركانه بالذكريات
تشعر بالآلفه وانت معه .. تشعر بالسكينه …
واكتمل المشهد بوجوده … وهو يشبه هذا البيت
وكأنه خرج من حقبة الستينات …
أناقته .. نظراته المفعمة برجوله طاغيه …
طريقته وأسلوبه في الحركه تشعرك بالامان ..
ابتسامته المطمئنه تضفي راحه وسكينه ..
تحرك القطار فجأه فانتفضت وفتحت عيناي ..
وجدته ينظر الي في قلق : انتي كويسه ؟؟
شعرت بحرج واحمر وجهي وهربت من عينيه وقلت اتخضيت بس عشان كنت سرحانه ..
ابتسم وعاد الي هاتفه ينظر فيه …
تحرك القطار الي خارج المحطه …
اخرجت الكتاب من حقيبتي لأهرب من افكاري الغريبه …
بدأت بقراءة بعض السطور … فشعرت اني لم افهمها فعدت لقرائتها مره اخري .. فلم استوعبها
تنهدت في ضيق فأنا اعرف نفسي المحيره عندما تتزاحم الكلمات بداخلها .. افقد السيطره …
تركت الكتاب مفتوح برغم من توقفي عن القراءه
سرحت بعيناي من نافذة القطار …
الناس والزحام ..
لكل إنسان قصته الخاصه .. تتداخل القصص وتتشابه بين الالم والامل .. الموت والحياه ..
الحزن والسعاده .. تتوالي الخطوات وتتعثر وتكتمل ..
وبدأ القطار يخرج الي الطريق الزراعي ..
كان الليل يخيم علي كل ما حولنا ..
ليل الشتاء البارد البطئ ..
ورأيت انعكاس وجهه في زجاج النافذه ..
لازال ينظر الي هاتفه .. ورفع عينيه ونظر الي ..
كتمت أنفاسي .. وأغلقت الستاره وعدت الي الكتاب مره اخري ..
تداخلت الحروف .. فثبت عيناي علي الكلمات ..
وبطرف عيناي لمحته لازال ينظر الي هاتفه ..
ابطء القطار حتي توقف لم نكن وصلنا لأي محطه بعد ففتحت الستاره ونظرت بجانبي لم اري شئ غير الاراضي الزراعيه ومن الجانب الاخر علي مسافه انوار السيارات علي الطريق الزراعي ..
بدأ الكل يتسائل وعم القلق رواد عربة القطار ..
لم اتحدث ولكني توترت بشده وعلت أنفاسي ..
نظر الي وبدون ان اسأله وجدته يقول : ما تقلقيش اكيد مستني قطر تاني هيعدي بس
تنهدت وقلت بصوت خفيض : ما بحبش المفاجأت ربنا يستر
ركز عينيه علي وجهي وابتسم : ما تتوقعيش الوحش عشان ما يجيش
شعرت بغصه في حلقي ورددت :ما بتوقعهوش وبيجي والله
قاطعنا صوت احد العاملين في القطار وهو في اول العربه يقول : حادثة يا جماعه علي شريط القطر وهنضطر نقف لحد ما يشيلوها ..
سأله احد الركاب : ينفع ننزل ونكمل بمواصلة ثانيه
رد الرجل : لا احنا في وسط الزراعات والطريق بعيد
تنهد الراكب في ضيق ..
وانكمشت في مقعدي وانا اشعر بخوف وقلق يجتاحني
اخرجت هاتفي وتحدثت بصوت خفيض لأخبرهم اني سأتأخر …
أمسكت هاتفي وظللت اتصفح بدون هدف ووجدت الحادثة علي مواقع الاخبار واتصلت والدتي اكثر من ثلاث مرات في خلال ساعه لتطمئن عليا .. زاد توتري عندما انتبهت ان هاتفي غير مشحون أدخلته في الشنطه ووضعت الكتاب لأني فقدت تركيزي ورغبتي في القراءه ..
احتضنت شنطتي وشعرت برغبه عارمه في البكاء
نظرت الي خارج النافذه لم اري شئ الا خيالات الأشجار ..
تسربت دموعي الي عيناي فاغمضت عيناي وتركت دموعي تنساب علي خدي في صمت ..
أنصت لأصوات الركاب وهم يتحدثو عن الحادث الذي تسبب في تعطل القطار ، والبعض يؤكد مش اقل من ساعتين او ثلاثه حتي يمكن للنيابه معاينة الحادث قبل ان يمكنا استئناف الرحله ..
فتحت عيناي في فزع … وقلت باستنكار ساعتين ثلاثه كمان … وحولت نظري اليه وسألته هو انا ينفع انزل وأمشي لغاية الطريق ؟؟؟
نظر الي وجهي وابتسم وقال في هدوء وبصوت مطمئن : الطريق مش هيبقي أمان الأفضل نستني في القطر ويوصل في وقت ما يوصل
مددت يدي الي وجهي فوجدت دموعي مازالت تبلل وجهي فمسحتها سريعا في حرج وهو مازال ينظر الي ..
بحثت عن كلمات تهون الموقف فلم اجد قاطعني في محاوله لتدارك الموقف: عارفه بره في حاجه مشهورة اسمها صديق القطار .. بتركبي من محطه مش محطتك وتقعدي تتكلمي وتفضفضي في اللي انتي عايزاه لان احتمالية انك تقابلي الشخص ده مره ثانيه اقل من ٢٪ والإنسان اسهل يفضفض لحد غريب من انه يحكي اللي جواه لحد يعرفه وهيقابله تاني .. وملأت وجهه ابتسامه رائعه وهو يقترب ويكمل ايه رأيك تبقي صديق القطار بتاعي ؟؟
وافضفض واحكيلك ؟؟
ابتسمت وانا اعرف انها محاوله ليجعلني اهدأ
وقلت : بس افرض قابلتك تاني
فرد :اللقاء نصيب وقتها ابقي اعملي نفسك مش عارفاني
اتسعت ابتسامتي وبدأ الهدوء يتسرب الي نفسي
سألته بتعجب : هو ازاي حضرتك متماسك كده ؟؟
رد : اولا بلاش حضرتك عشان نعرف نفضفض صح ثانيا الهدوء في الأزمات دا تدريب مع تكرر المواقف بتلاقي ان افضل حل هو الهدوء والترقب وتشوفي الموقف ممكن ينتهي ازاي …
هبدأ انا بالفضفضه .. انا طول عمري بحب شغلي جدا وشغلي هو شغفي ودي نعمه من ربنا بس بقالي فتره حاسس ان حماستي قلت وبقيت بزق نفسي عشان انزل وبقي جوايا تساؤل غريب هو انا فعلا عايز اعمل الشغل ده ..
الشغل والحياه زي الساقيه بتفضلي تلفي تلفي وبتبقي خايفه حتي تقفي تفكري دقيقه هو انا رايح فين وفعلا هو ده اللي انا عايزه ..
يمكن يكون الكلام فلسفي شويه بس هو ده اللي جوايا ..
ابتسمت وقلت : كل واحد عنده الاوضه الضلمه اللي جواه اللي بيخبي فيها كل اللي مخوفه او مضايقه او مشاعر سايبها جوه .. بس غصب عننا كل شويه عينك بتيجي عليها .. حاجه مش قادر تواجهها بتتعايش معاها
سرح للحظه في كلامي وقال باندهاش : غريبه جدا اني اتكلمت معاكي في الموضوع ده .. فعلا الفضفضة بتريح ..
قولي لي بقي الاوضه الضلمه اللي جواكي فيها ايه؟؟
تنهدت واعتدلت وانا اقترب منه وكأني اخبره سر لا اريد لأحد ان يسمعه : خوف .. الاوضه مليانه خوف
خوف قاتلني … خوف مانعني من الحياه ..
خوف من التجربة .. خوف من المغامرة …
بكتب عن مغامرات عمري ما جربتها …
عن مشاعر وأحاسيس عمري ما عشتها ..
أصبحت احلم بالحياه ولا اعيشها ..
اخاف ان ينكسر قلبي .. اشعر بروحي هشه
فأفضل البقاء بداخل قوقعه .. اشاهد الحياه من بعيد ولا اجرؤ علي الاقتراب ..
قاطعني باهتمام : والخوف ده طول عمرك ولا جديد
شعرت بالكلمات تخنق أنفاسي : صدمات الحياه افقدتني الثقه .. والآمان .. ولولا الإيمان والرضا كان زماني ما عرفتش اكمل ..
اطال النظر الي وكأنه يبحث عن ما تخبئه كلماتي
تحرك القطار فتنهدت ونظرت الي خارج النافذه ..
لم اري شئ سوي الظلام ..
اخرجت هاتفي فوجدته نفد منه الشحن اعدته مره اخري الي شنطتي وأسندت رأسي علي المقعد وانا انظر الي النافذه جاءني صوته هامسا : الامان بيجي من جوانا .. والحياه معافره يا انتي تكسبي يا تكسرك الأيام ..
ألتفت اليه وابتسمت وقلت : كان في فيلم البطله بتقول نفس كلامك كده تقريبا .. ان مافيش مكان أمان كفايه ولا علاقه قويه كفايه وطول الوقت نقوي نفسنا للخبطه الجايه ونتخبط ونقوم تاني ..
ابتسم وقال : صح كده .. انا بحب الأفلام جدا شوفتي فيلم “Taken”
هززت رأسي نافيه وبدأ يحكي لي الفيلم بأجزائه الثلاثه وانا استمع اليه باهتمام وابتسم ..
صوته الاجش وطريقته في سرد الأحداث وبدأت احدثه انا عن فيلمي المفضل …
حول نظره من وجهي الي خارج النافذه ونطق حمدلله علي سلامتك وصلنا كانت الساعه تقترب من الثانيه بعد منتصف الليل ..
تأخر القطار ٥ ساعات عن موعده ..
نظرت فوجدت المحطه قد اقتربت وشعرت بخوف غريب بداخلي ونظرت اليه وقلت : ربنا بعتك ليا النهارده .. هونت عليا الطريق وطمنتني وكنت افضل صديق قطار ممكن اقابله ..
ابتسم وقال : انا اللي عايز أشكرك .. استمتعت جدا بالكلام معاكي وبرغم اني صديق القطار انا بجد بتمني الصدفه تجمعني بيكي تاني ..
وصل القطار ونزلنا معا … وظل معي حتي أوقف لي تاكسي ووقفت انظر اليه لآخر مره وانا احاول ان احفر ملامحه بداخلي حتي لا أنساه ..
ومرت سنوات ولازلت ابحث عنه في وجوه المسافرين كلما استخدمت القطار ينتفض قلبي كلما ألتقطت أنفاسي رائحة عطره ..
استرجع ملامحه ..أتوسد كلماته ..
وأصبح هو الحلم .. هو الأمل ..
اكتب عنه وله … ومازلت انتظرك ..
ساهي صلاح الدين