يتفاوت إحساسنا بالبشر عشقا و صدقا ووفاء تبعا لقربهم أو بعدهم من قلوبنا ،و منا من وهبه الله مشاعر أرقى ، و إحساسا أرق فيشعر بالأماكن شعوره بمن يحب ؛ فيحب مكانا دون كل الأماكن ، ويشتاق إليه عندما يفارقه ؛ فهذا المكان قد احتضن أشخاصا نحبهم ، و هواؤه كان مختلطا بأنفساهم يوما ، وعاش معهم لحظات سعادتهم و لقائهم و ضحكاتهم ، و استمع الى حديثهم ، و شهد ذكرياتهم ، و استمد سعادته منهم فعندما كنت أقرأ شعر مجنون ليلى : أمر على الديار ديار ليلى .. أقبل ذا الجدار و ذا الجدار ا و ما حب الديار شغفن قلبي .. ولكن حب من سكن الديارا كنت أقول لنفسي :ألهذه الدرجة يصل حب الحبيب لبيت حبيبه ؟ ألهذه الدرجة ينهار شوقا لكل ما يتعلق به ؟! كنت انفعل بالشاعر الذي يذوب عشقا بأطلال محبوبته .. يدور حولها .. و يحن إليها .. و يشتاقها ، يرتبط بتلك الأماكن التى أصبحت ذكرى .. يلقاها و ما يلقى فيها إلا محبوبه .. يحبها لأنها هي التى بقيت من ذكرى جميلة لها آثار لا تمحى من القلب و العقل معا .. يذهب إليها حاملا همومه و أحزانه و حنينه فيعود و قد برئت نفسه من بعض ما تحمله ، لكنه -في الوقت ذاته -يعود محملا وخز الألم له علامات ظاهرة في العين ، تتساقط داخل القلب دمعة دمعة تحرقه و تؤلمه ، و أنين سمع صراخه في القلب ينشده أن يرحل و يأبى زمنا غير قليل ، فلا القلب يطاوعه ، و لا قدماه تأتمر بأوامر عقله ، و بعد صراع بين العقل و القلب يرحل ؛ حتى يكمل دوره في حياة غير راض عنها قلبه ، و بعد حين من الزمن يرجوه نفس القلب أن يعود ، فيعود مرغما بسلطان الاشتياق و الوفاء .. و تظل تلك المأساة تتكرر على فترات من حياته ، يعطي الأطلال بعض همومه و حنينه و اشتياقه فتعطيه -هي أيضا- بعض آلامها .. يتبادلان الحب و الحنين ، يرتبط بها ؛ لأنها أصبحت محبوبه الذي طوته الحياة ، ورمت به الأقدار في طريق آخر لم يعد يسلكه . و كأني اسمع ذلك الشاعر يلعن الفعل ” كان ” الذي سلب منه سعادته و حياته التى يتمناها .. هذا الفعل الذي يسرق منا أيامنا الجميلة و يجعلنا نتحدث عنها بلهفه مغلفة بألم مدفون بين ثنايا المشاعر .. و ما اقساك أيها الفعل اللعين ! و ما أسوأ ما تفعله بالمحبين ! هذا كله نوع فريد من الوفاء و الإخلاص ، وفاء للحبيب ، ووفاء لكل ما يتعلق به ، حتى و إن كان طللا مهجورا ، لا حياة فيه للرائي العابر ، لكنه كل الحياة لمن يحب و يخلص . و أن تظل وفيا مخلصا ذلك أقوى اختبار لقوة عاطفتك ، ودليل على صدقها . و رسوخها ، و لا يقتصر الوفاء لشخص يعيش معك الحياة فقط ، لكن الوفاء في اروع صورة أن تظل وفيا له إن طوته عنك الأرض في باطنها أو فرقت بينكما و أنتما على ظهرها . وإن وجدت محبوبا يمتلك كل هذا الصدق فهنيئا لك به ، فهو حبيب بألف حبيب ، و حبه يغنيك عن الدنيا ، و هو عالم من العاطفة – في زمن عز فيه الحب- يحتويه دون طلب منك ، يجعل العالم كله مقصورا عليك ، الحياة كلها أنت ، و القلب لك وحدك ، و المشاعر لاتخرج إلا إليك ، تتعود على مشاعره و حبه ؛ فكل حب بعده ليس بحب ، و كل صدق ليس بصدق ، و كل شوق ليس بشوق ؛ لأنه أغلق العالم عليك . فإن وجدت ذلك النوع من الحبيب فاحفظه ، وصنه ، و لا تفارقه ؛ فقد لا تهديه لك الحياة مرة أخرى .