في بطء وخبث كور هشام ورقة من الأوراق التي يحويها مكتبه صانعا منها كرة وأطلقها فجاة باتجاه زميله بالمكتب، الذي كان يبدو عليه أنه يسبح بخياله في عالم آخر كما بدا لهشام، فانتفض بدوره في انزعاج ناهراً زميله «إيه يا هشام فيه إيه؟ .. بطل استظراف».
– ايه يا عم خالد انا كنت بصحيك من النوم يا بني انت مش هنا.
– نوم ايه انت كمان – مشيرا لجهاز الكمبيوتر – منا بشتغل أهو مش شايف؟!
– شايف شايف ههههه .. سيبك انت بس قولي .. مالك مدهول كده ليه؟ .. ثم يقترب بكرسيه ذي العجلات حيث يجلس خالد ويتحدث بشكل كوميدي وكأنه يتحرى السرية .. «انت لسه متيم بالبنت بتاعة الورد؟»
– ملكش دعوة بالموضوع ده قلتلك.
– الحق عليا انا بحاول اساعدك بدل مانت طالع نازل من البنك تراقبها.
– انا أصلا غلطان اني حكيتلك.
– لا مش غلطان .. هو احنا مش صحاب ولا ايه؟ .. وبعدين منا قلتلك رأيي .. روح كلمها وش كده انت اللي متردد ومش فاهم مالك!
– بجد مش عارف .. من ساعة ما فتحت محلها أدام البنك وبقيت بشوفها كل يوم وبتابعها وانا عندي رغبة فظيعة انى اتعرف عليها.
– ايه؟ .. تكونش حبيتها؟ .. مش مصدقك انا.
– مش عارف .. بس لازم الاقي طريقة اتكلم بيها معاها.
– طريقة لايه؟ روح كلمها على طول.
– قلقان بصراحة.
– قلقان من ايه؟!
– اصل انت مشفتهاش يا هشام بتتعامل مع الورد ازاي .. يابني دي رقيقة رقة .. انا خايف اروح اكلمها اصلا من رقتها.
– طب اقوللك فكرة عظيمة انا؟
– ايه؟
– الفالنتين يعد يومين تلاتة .. ما تجيبلها ورد وتروح تكلمها هاهاهاها
– انت بتهزر هه صح .. بتستظرف؟
– طبعا
– طب ايه رأيك بقى انا قريت في صفحة عمق عالفيسبوك انه حتى بائعة الورد تفرح اذا أهداها أحدهم وردة.
– يا راجل .. صفحة ايه؟
– عمق يا جدع.
– ضارباً على جبهته علامة اليأس من صديقه .. عمق قالت كده؟ .. طيب يا خالد .. ربنا معاك انا حسكت اهه ومش حتكلم.
ينظر خالد في ساعة يده المشيرة للثانية عشرة .. فيعدل من هندامه وربطة عنقه الأنيقة فيبادره هشام قائلاً «يلا ننزل نشرب قهوة».
– لا انا عندي مشوار .. سلام.
يخرج خالد من بوابة البنك ويعبر الطريق وعلى وجهه أشد علامات التردد والحيرة متوجهاً لباب محل هند، فيدفعه ويدخل فتستقبله هند بابتسامة ودودة من خلف رف الورود .. ثم يأتي عمر من خلفه متساءلاً «اتفضل يا فندم .. أساعد حضرتك ازاي؟» فيعلق خالد نظره بهند .. فتصرف هند عمر قائلة: «روح انت يا عمر انا حساعد الاستاذ .. اتفضل يا فندم».
– أنا كنت عايز أسال عن…
– عن ايه؟
– عن بوكيه ورد .. انا عايز اعمل بوكيه ورد بس كنت عايز اسأل عن جملة متعلقة على المحل من بره .. مكتوب (لكل زهرة معنى ولكل بوكيه قصد .. اسأل بياعة الورد واهدي اللي تقصده).
– ده كلام صحيح.
– ايوه عايز افهم الاول المعنى ده عشان اهدي اللي بقصده.
– ممممم .. ببساطة حضرتك الورد بشكل عام هو تعبير عن الحب والود والجمال .. الألوان فيها دلالاتها المختلفة .. وفيه ورود خاصة بكل مناسبة بيفضل نهديها فيها .. ده المقصود من الجملة حضرتك قولي عايز تعمل بوكيه لايه وانا اساعدك.
– الحب
– أفندم؟
– آآآآ .. عيد الحب يعنى عايز أعمل بوكيه لعيد الحب.
– بس ده بعد 3 أيام لسه!
– لا ما أنا قلت ادرس الموضوع الاول.
– تدرس الموضوع؟!
– قصدى قلت افهم الاول واسأل قبل عيد الحب يعنى.
– ممممممممممم
– يعنى تقترحي ايه لبوكيه عيد الحب؟
– فيه حاجات كتير .. اتفضل شوف الصور دي .. بس هو ابسط حاجة واشيكها واللي برشحها دايماً، (ورد أحمر بلدى وبيبي فلاور مع شوكليت ستيكس وبالون)
– بيبي فلاور؟
– ايوه
– يعني ايه؟
– ده ورد ابيض صغير جدا في الحجم وفروعه رفيعة ورقيقة عشان كده بنسميه بيبي فلاور.
– اااه
– حاجة تانية حضرتك؟
– لا شكرا
– مع السلامة.
في ظهيرة اليوم التالي وفي التوقيت الثابت للاستراحة الخاصة بخالد كان يدفع باب محل الورد ملقياً التحية على هند التي بادلته اياها وعيناها بها ترقب وتعجب بذات الوقت.
– أنا كان لي استفسار.
– خير؟
– الشيكولاتة.
تتطلع هند اليه في حيرة فيستكمل .. الشيكولاتة الي في البوكيه حضرتك قلتيلي بتستعملوا في البوكيهات نوع معين؟
ايوه يا فندم .. استيكس بيتغرس في وسط البوكيه.
– ليه؟
– ليه ايه؟
– يعنى ليه مش اى نوع تانى؟
– حضرتك نوع تانى احطه ازاي وسط البوكيه الي اخترته؟ عرضت عليك أشكال كتير والشكل اللي اخترته يليق عليه النوع ده من الشوكولاتة.
– طيب ممكن ادوق الشيكولاتة دي؟
– نعم؟
– في سخرية محاولا المزح .. عادي مش في (أولاد رجب) بتدوقي الجبنة قبل ما تشتريها؟
– جبنة؟!!!
– آآآ .. آسف قصدي في (باشانيل) مش بتدوقي الشوكولاتة لو طلبتي منهم تجربي نوع جديد؟
– لا احنا هنا العملا مش بيدوقوا الشوكولاتة .. وبعد اذنك انا عندي شغل … حاجة تانية؟
– في ارتباك يشكرها خالد ويخرج على الفور.
في ضيق زفر خالد ومالبث ان أمسك بالكرة المطاطية التي يستخدمها ليقلل توتره وشرع في الضغط عليها في سرعة كبيرة مما لفت نظر زميله وصديقه هشام الذي توجه اليه قائلاً: برضه هربت مني النهاردة في البريك .. كنت فين؟ يا ابني ما تعترف.
– ممممممم
– انطق
– رحت محل الورد
– تااااااني؟
– تالت.
– انت بتهرج بجد .. وعملت ايه؟
– سألتها عن بوكيهات الورد المجففة احسن ولا الطبيعي.
– في صدمة وسخرية ترتطم يد هشام بجبهته وهو يصيح بصديقه .. يادي الحوسة! .. ورد مجفف ايه وكرنب محشي ايه يا خالد انت بتهرج؟ هو انت من ساعة أميرة وانت لسانك اتعقد بفيونكة ولا ايه؟!
– هشام…
– هشام ايه بس وبتاع ايه؟ هو انت اول ولا اخر واحد يفشل في حدوتة خطوبته؟ انت مش انت يا خالد .. ده انت حتى خايف تكلمها بصراحة ونقولها انك معجب بيها وعايز تقعد معاها!
– افهمني .. انا متعقدتش ولا اي تخريف من اللي بتقوله .. بس هو لما بتمر بتجربة فاشلة بتبقى خايف تكررها تاني .. بتبقى طول الوقت بتسأل نفسك هو انا لو جربت تانى حنجح ولا لأ .. حتى لو كنت مش السبب المباشر في فشل تجربتك .. بتقلق برضه يا معلم .. اي حد اتوجع بيخاف يكرر الوجع ده وبيفكر كتير قبل ما يقربله ويجرب تاني.
– يا خالد ارحم مرارتي والنبي .. أميرة دي كانت نكدية نكد التنين يا بني وقفوشة آخر تمانين حاجة .. دا انت يوم ما عرفتها عليا كانت بتبصلي بصات انثى الطور قبل ما تهجم عالفريسة وهي متعرفنيش اصلا .. بس حظي بقى صاحبك ولازم يعدموني في ميدان عام .. البت كانت سايكو اقسم بالله .. ارحم نفسك.
– يعني اعمل ايه؟
– يعني تفكك من اي حوارات بلا ورد بلا بتاع وتروح تكلمها على طول.
في تردد وصمت يرقبه خالد ثم يردف قائلا: حشوف .. الفالنتين بكره .. حكلمها.
في صباح الفالنتين يفارق خالد منزله مبكراً منسق الهندام متوتر العينين محدثاً نفسه: خلاص بقى حكلمها النهاردة يعني حكلمها، انا مش حفضل اتوتر كده كتير كل ما اشوفها.
عند بوابة البنك يقوم خالد بصف سيارته وعبور الطريق ملاحظاً وصول هند مبكراً .. يلاحظ لافتة مغلق التي لازالت تتصدر الباب الزجاجي فيتردد لبرهة داخليا الا انه يقول لنفسه: «جو خالد جووو» .. يدفع الباب فتقابله نظراتها المنزعجة فيتجاهلها متقدما من هند مبادرها: صباح الخير.
– تواجهه نظراتها المنزعجة: حضرتك احنا لسه مشتغلناش.
– يجيبها في حرج: الحقيقة انا عندي شغل وما صدقت لقيتك موجودة بدري .. ثم يحاول الاستدراك وفتح حوار علها تستجيب .. انا بشتغل في البنك اللي في المبنى اللي قدامك ده….. الا انها تقاطعه قائلة: سألتني عن كل الورود والشيكولاتة المقترحة لبوكيه الفالنتين والألوان واللفة .. خير نسيت تسأل عن حاجة كمان؟
يشعر انه يريد ان يرحل فوراً امام هجومها عليه فيرتبك: لا .. أنااااا….
– نعم؟
– يسقط في يده فيجد نفسه يقول لها: عايز الورد .. ممكن تعمليلي البوكيه بقى؟ … ثم يستطرد في استعطاف: آسف لو كنت أزعجتك كده الايام الي فاتت.
– تلين ملامح هند في حرج وتجيبه”أبدا .. أعمله دلوقتي يعني؟!
– آه اعملي البوكيه على ذوقك زي ما كنتي بتقترحي عليا بالضبط … (ورد احمر جواه بيبي فلاور وشيكولاتة ستيكس في النص وفيونكة روز شيفون كبيرة وبالونة مربوطة فيه).
-تبدأ هند في عمل البوكيه وهو يراقبها محدثاً نفسه: طيب وبعدين؟ حعمل ايه؟ اخد منها البوكيه واديهولها؟ .. فشل فشل يعني!!!
يقطع حديثه وتامله لها مستمراً في محاولة وصل الحديث معها قائلاً: شكلك بتحبي شغلك اوي.
– بحب الورد .. ده حقيقي.
يحدث نفسه: يا مسهل يارب اهي بتتكلم اهي.
– يستطرد: انا بعدي كل يوم من هنا وبشوفك وسط الورد وو….
– تقاطعه في حزم: البوكيه تمام .. اتفضل الكارت اكتب عليه .. لو تحب تقولي الاسم عشان ادبسه في البوكيه.
– في صدمة يحدث نفسه: اسمها؟ وهو انا عرفت اسمك لسه؟!
– في فراغ صبر تتساءل هند : نعم؟ فيجيبها: هو الحقيقة سيبي الاسم فاضي.
تتفحص هند وجهه بطريقة تذيب مقاومته وتجعله على وشك الانهيار والبوح .. فيتماسك ويقول بمبادرتها قائلاً: تصوري .. انا معرفش اسمك .. كنت عايز اشكرك .. انتي فنانة بجد وو…
– تقاطعه في عجلة وكأنها تغلق المغاليق على حديثهما: هند .. اسمي هند.
يحدث نفسه: الله .. هند .. ثم يعاتبها على سرعتها ورغبتها في انهاء الحوار قائلاً: هو انتي على طول سريعة كده يا هند؟
– سريعة؟!
– يعود لحرجه سريعا فيبرر: في الشغل يعني عملتيه بسرعة اوي
– فتجيبه في سرعة: حضرتك انا معنديش وقت الحقيقة لنص ساعة رغي مع كل عميل كده مش حنخلص.
يصمت تماماً مستسلماً بوجوم لنهاية الحوار بينهما .. تقدم له باقة الورد: اتفضل البوكيه … يشكرها في خيبة امل ويسلمها الكارت الالكتروني لتسحب ثمن الباقة على جهاز الفيزا الالكترونية، وتسلمه له في صمت وحزم فيرحل من امامها.
يخرج خالد من محل هند محبطاً لا يعلم ما يفعل .. ينظر للبوكيه الذي يحمله ويحدث نفسه: انا مش ممكن اطلع بالبتاع ده البنك .. دول يعملوا عليا حفلة.
يصمت للحظات ثم يتجه لسيارته فاتحاً حقيبة السيارة الخلفية فيضع الباقة بها ناظراً لها ومتمتماً في عبث: ارقد في سلام يا حنفي.
يتوجه للبنك فيبدأ يومه وعقله غائب تماماً لا يعلم ماذا يفعل .. يراقب زملاؤه المحتفلين بالفالنتين فهذا يحضر باقة ورد لزميلته المرتبط، بها وتلك يرسل لها زوجها باقة تتسلمها في فرحة وتقرأ الكلمات التي خطها لها بالكارت المرفق للباقة….
تلمع عيون خالد فجأة فيتناول من درج مكتبه ورقة صغيرة فيكتب: «هند .. اسمها هند .. قصدي البوكيه ليكي في الحقيقة .. من ساعة ما فتحتي محلك قدام البنك وانا بشوفك كل يوم وسط الورد .. كنت بحسه مكانك الطبيعي .. يعني وردة جميلة وسط محل ورد .. حاولت أتكلم معاكي كتير بس مكنتش عارف أبتدي منين .. بس النهاردة عرفت حبتدي منين .. إقبلي منيٍ أجمل ورد اتعمل بأرق ذوق واسمحيلي أتكلم معاكي شوية»
يقوم خالد بطي الورقة .. ويضعها داخل مظروف صغير .. ويضع المظروف بجاكت البدلة الخاصة به .. ثم يعود لعمله هادئاً وكأنه وجد ضالته المنشودة.
ينهي عمله بالبنك في الخامسة فيخرج منه متوجهاً للكافيه القريب من البنك والذي يطل على محل هند أيضاً فيجلس مراقباً لهند وهي تقوم بتزيين عشرات الباقات لعملاءها بمساعدة الشاب عمر الذي يساعدها وصديقتها حبيبة.. فيمر الوقت بطيئاً حتى تبدو هند مرهقة وهي تودع آخر عملاء لها ويراها ترقبهم في شغف وعيناها تنطق بالتمني .. فتنتعش نفسه ويرقب حبيبة وهي تضع لافتة مغلق على زجاج المحل .. فيسرع لسيارته فيضع الخطاب داخل البوكيه في موضع ظاهر .. ويسرع به لسيارة هند فيضعه فوق مقدمة السيارة ويبتعد قليلا ليرقب خروجها.
تمر دقائق فيخرج عمر من المحل حاملا أشياء الفتاتين .. الا انه يفاجئ بباقة الورد على مقدمة السيارة فيترك الأشياء بحقيبة السيارة ويدعو هند للخروج.
تخرج هند متوجهة لسيارتها فتتوقف متجمدة أمام الباقة .. ثم تقترب لتلتقط في رقة الخطاب .. وتقرأ في لهفة كلماته التي يسترجعها في خياله وقد بلغ الادرينالين في عروقه مداه .. وما ان ترفع عيناها عن الخطاب حتى يقترب خالد منها مبتسما وماداً ليده لها ومتمتما: «خالد .. انا خالد»
فتحدق به هند في خجل .. ثم تلتفت ليده الممدودة لها .. فتبتسم وتمد يدها مصافحة اياه وهاتفة في مزيج من الخجل والسعادة:
«أهلا يا خالد .. أنا هند .. بياعة الورد». ❤️❤️❤️❤️
تمت
#منى_عبد_العزيز
مارس 2019