ودعت جامعة القاهرة منذ أيام، رئيساً من أفضل من تولوا أمانتها منذ إنشاءها .. إنه أستاذ القانون الدستوري الدكتور جابر جاد نصار.
انقضت فترة طويلة .. لم أجدني حزينة فيها قط على رحيل مسئول حكومي .. مسئول ينتمي لحكومة عليها الكثير من المآخذ، بل إنها قد تسببت في الكثير من الإحباطات واللغط حتى الآن.
يأتي رحيل الدكتور جابر جاد نصار، عن الجامعة ليفجر فكرة قوية جلية لا يمكنني إنكارها .. ألا وهي، أننا قادرون على العمل والإنجاز بل والإحسان في أسوأ وأصعب الظروف.
يأتى رحيل “نصار” مفاجئاً ومخالفاً لكثير من الأنماط المتكررة، والتي تعودنا عليها مؤخراً، فمن يذكر مسئولاً حكومياً يشار له بالبنان والكفاءة وحب من عملوا معه ومن ترأسهم فى جهازه … من يذكر مسئولاً حكومياً تأتيه فرصة الترشح للولاية الثانية فى وظيفته والاستمرار فيها، ويأبى ولا يفعلها ويرحل؟! .. إنه عجب العجاب يا سادة!
جاءت فترة رئاسة “نصار” لجامعة القاهرة، خلفاً لزميله الدكتور “حسام كامل” أستاذ الطب والذى قدم استقالته في عام 2013، فى فترة حرجة من تاريخ مصر حيث كان الوضع السياسي بالجامعة فى شهر أغسطس تحديداً غاية في الحرج، خاصة مع كثرة اعتصامات مؤيدي الرئيس المعزول “محمد مرسي”، وهو ما جعل بداية رئاسته فترة مشحونة للغاية سياسياً .. إلا أنه قد تجاوز نلك الفترة تحت عنوان “سنتجاوز من ردة الفعل إلى الفعل” .. عابراً كل الحواجز والعثرات بسرعة الضوء .. واصلاً لقلوب من حوله ممن يعملون معه وحتى طلبة الجامعة الذين تباروا في الفوز بصداقته والظهور معه، في مثال رائع يحتذى به لأب أكثر منه مسئول، فلا ينسى أحد كلمات الطالبة التي استنجدت به مؤخراً، لتبلغه حزنها من رفض والدها لسفرها لمعسكر الجامعة، فإذا بـ”نصار” يتصل بالوالد ليقنعه بسفر ابنته، ويرسل لها رسالة خاصة بموافقة والدها! ومن يفعل ذلك سوى “أب”؟! والكثير والكثير من حكايات طلابه بل أبناءه نقرأها على صفحته الحاصة وصفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي.
انطلق “نصار” منذ بداية عمله، مراهناً على المجتمع الأكاديمي، وعلى أبنائه الطلبة، محاولاً فى البداية حل إشكاليات التطرف بالجامعة، ثم ما لبث أن انطلق محاولاً إصلاح أمراً تلو الآخر .. مؤمناً بأن الإصلاح متتابعة ومتوالية، لابد لها من الاستمرار استمرار الزمن .. هادفاً كما كان يذكر مراراً وتكراراً إلى أنه قد أسس لعمل مؤسسي بالجامعة، لا يرتبط بشخص ولا بنظام، فالجامعة كيان مستقل لابد لها أن تستمر فى أداء دورها التنويري المجتمعي في مختلف الظروف.
عكف “نصار” خلال فترة ولايته لرئاسة الجامعة، على وضع قواعد للإصلاح المالي، ذكر أنها تأتي حالياً بمبلغ (240 مليون) جنيه كل ثلاثة أشهر، من خلال مواردها الذاتية، ومن ضبط عملية التصرف فى موارد الجامعة، والتي توقف الإهدار بها تماماً.
في عهده عادت جامعة القاهرة، لتأخذ مكانها بين المؤسسات كمنارة يقصدونها لمختلف الأغراض التنويرية والإنسانية، فافتتح المرحلة الأولي لتطوير مركز الجامعة للطباعة والنشر بتكلفة 10 مليون جنيه، وأصبحت الجامعة تقدم خدمات مجانية للكشف المبكر عن سرطان الثدي، علاوة على افتتاح المرحلة الأولي لمستشفي الأمراض المتوطنة التابعة لجامعة القاهرة بالهرم.
كما حصلت الجامعة القاهرة على شهادة الأيزو الدولية، بالإضافة إلى وضعها في قائمة أفضل الجامعات حول العالم في التصنيف الصيني، كما حصلت أستاذة بجامعة القاهرة على جائزة أفضل مدير بمعاهد كونفشيوس حول العالم.
كما افتتحت جامعة القاهرة المسجد الكبير بالحرم الجامعي، وتم توقيع اتفاقية تعاون مع جامعة هيروشيما اليابانية، وتوقيع اتفاقية تعاون بين الجامعة ومؤسسة مجدي يعقوب للقلب، للتدريب وتبادل الخبرات، كما شاركت الجامعة في عهده بالحملة القومية لإنقاذ نهر النيل، وشارك فريق طلابي في مسابقة فورميولا لطلاب الجامعات بألمانيا، وفاز فريق من طلاب كلية الهندسة بالمركز الرابع في مسابقة عالمية للسيارات الصديقة للبيئة، كما شاركت الجامعة في عهده في حملة الـ 16 يوماً العالمية لمكافحة العنف، وتم توقيع اتفاقية شراكة وتعاون بين الجامعة ومؤسسة الأهرام في مجالات التدريب والنشر والإعلان والاستفادة بالإمكانيات المتاحة لدى الطرفين.
أما فيما خص العاملين بالجامعة وأعضاء هيئات التدريس، فقد قام “نصار” بزيادة مكافأة نهاية الخدمة لأعضاء هيئة التدريس والعاملين، وبدأت بالتحصيل الإلكتروني للرسوم الدراسية للطلاب، وتنفيذ مشروع ميكنة الإدارات الجامعية وتنمية مهارات العاملين.
يرحل “نصار” بعد أن سطر على صفحته الشخصية الكلمات التالية ليلة مغادرته «غداً، الأربعاء 26 / 7 / 2017، أخر مجلس جامعة في ولايتي كرئيس للجامعة، وبعد انتهاء أعماله، سنقوم بمشيئة الله بافتتاح مجمع حمامات السباحة في المدينة الرياضية بملاعب الجامعة، ويضم أحدث حمام سباحة في مصر وفق مواصفات ريو، وسيعقب الافتتاح، مؤتمر صحفي بحضور مجلس الجامعة، في تمام الساعة الثالثة عصراً، علي حمام السباحة، وذلك لتقديم صورة نهائية وذاكرة رقمية عن جامعة القاهرة في السنوات الأربع الماضية .. جامعة الإنجازات والتميز … المجد لجامعة القاهرة».
يرحل”نصار” وقد أدى أمانته وسطر سطوراً من نور فى تاريخ جامعة القاهرة .. كان فيها خير رئيس وخير قدوة .. وأثبت فيها بما لا يدع مجالاً للشك، أن العمل ممكن، والأمل لا ولن يموت، وأنه ليس ثمة شك يذكر فى أنه يجب أن نعمل وبلا أى عذر .. وأن نمضي قدماً فى طريق أحلامنا غير عابئين بأية عقبات ولا ظروف ولا مناخ .. فقط نعمل .. ونتبع أحلامنا … فغداً تحاسبنا تلك الأحلام على تقصيرنا في حقها ولماذا أهدرناها … فلنعمل مثلما عمل “نصار” وفقط .. ولنترك النتيجة والتجربة لحكم المجتمع والتاريخ كما فعل.