الدوغمائية
مَن الذي أثار غضب النملة؟
– سؤال قفز إلى عقلي فجأة دون أي مقدمات، وظل يتنقل بين أروقته المُتشعبة للوصول لجواب مُقنع يرضي فضولي وغرابتي.
ولكن هل مَن أثار غضبها – تلك الأرجل التي اعترضت طريقها وهي حاملة بياتها الشتوي؟ – أم ذاك القطيع مِن النمل الذي اعترض على سلوكها هذا الطريق؟ – أم عقلها الرافض لتلك الفكرتين، وإقناع قطيع النمل بأن ذلك الغضب لا يشكله لا الأرجل المعترضة طريقها ولا انتقادهم؛ بل لطريقتهم الفظة وفِكرهم المُعارض لها فقط؟
– إنها عملية مُعقدة، مَن على صواب ومَن على خطأ؟ ومما أثار حفيظتي أيضًا ذلك الغضب الجارم لتلك النملة التي ظلت تسير فِي طرق مُتفرقة مِن بعد اعتراض تلك الأرجل لها، وعدائها لبني جنسها وشذوذها عنهم، وتشبثها برأيها الأوحد الذي تفرضه على الآخرين، ولكن هل يعتبر ذلك انتهاك لحرمة العقل؟ أم أنه انحراف عن مسار الطبيعة؟
– عندما تجد شخص مُعادي لك ومتجنب أطراف الحديث معك ويُظْهِر الغضب بشكل يثير حفيظتك؛ حينها تبدأ بالتشكيك بأفكارك، وتُلِح لديك رغبة قوية بالبحث والتنقيب للوصول للُب الحقيقة، فأنا أؤمن بأن الرغبة تزول بإشباع الحاجة، وليس فرضًا على الإطلاق؛ لكنه الفضول الذي يتمتع بِه الأغلب، ودائمًا التفكير دليل الوجود، لذلك قال ديكارت “أنا أفكر إذًا أنا موجود”
– وإن الكثير مِن آراء السياسيين وأصحاب الأفكار الدينية المتشددة تسلك نهج تلك النملة، النهج الدوغمائي، ولا يقبلون المناقشة أو فِكرة تقبل الرأي الآخر، لأنهم يعتقدون أن أفكارهم وآرائهم تمثل الحقيقة المطلقة ولا تخضع حتى للإتيان بأي دليل ينقضها، إن هذه هي الدوغمائية المنغلقة، حالة من الجمود الفكري أو العقائدي أو السياسي أو الديني.
– فمازال عالق بذاكرتي برغم مرور السنوات، ذلك المُدرس الذي كان يدرس لي بصف الكيمياء، عندما طلب مِن جميع الصف الإتيان بمعادلة كيميائية في غاية الصعوبة، وظل ينتظرنا شاهر أنظاره صوبنا بالتحدي، حينها وبعد إسرافي لثلاث ورقات ووقت وفير؛ وثبت مِن مكاني بتردد ناحيته بورقاتي وبالمعادلة بنهاية الورقة الثالثة، نظر للورقات بلا مبالاة ثم قال “لقد أتيتِ بالمعادلة، ولكنها ليست بهذه الطريقة” وحدث نقاش بيننا انتهى بأن قوله غير قابل للدحض نهائيًا, ولابد لي مِن الالتزام والقبول بأن طريقته هي الصحيحة فقط على الرغم مِن أن الطريقتين يؤديان للنتيجة نفسها.
– إن ذلك يا هو لُب الدوغمائية، حالة شديدة مِن الرفض لأي فِكرة لا يؤمن بها الدوغمائي، وهي تعتبر أحد أنواع الإرهاب الفِكري الذي يُمارس على العقول بهدف تنمرها وانسياقها وراء أفكارهم حاملين لها على أعناقهم، وذلك يفعله المتطرفون المتعصبون أيضًا تحت راية أي دين مِن الأديان رافضين الاستماع إلى الآخر كداعش واليهود.
– وقد يختلف البعض معي في قول أنّي أرى الدوغمائية مرض شديدي الثقافة حتى الغرور، أراهم متخندقين داخل عقولهم ويمارسون الديكتاتورية بسوط الثقافة، فارضين أفكارهم وسياساتهم وآرائهم الغير مدعومة ببراهين، مُدعين الحق دائمًا، والغير باطل دائمًا، وإن الغضب يضرم عقلي لهؤلاء المرضى المثقفين.
– فإننا بحاجة إلى التنوير إلى فِكر مشترك يرفض أي فلسفة قائمة على الرأي الأوحد، ولا نجعل مِن ذواتنا فارغة لتكون سهلة الإقامة للدوغمائيين وللممارسات الفِكرية المغلوطة “مَن رأى مِنكم مُنكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”
– لا يوجد في هذه الدنيا مَن لا يملك رأيًا متفردًا، حتى وإن كان بداخل جماعة، وأيضًا لا يوجد أحد لا يُخطئ ولا يتعصب لفِكره وأرائهُ التي يراها وبلا شك نابعة من قلب يقين الصواب.
– وبعد ذلك الصراع المُخيف, سأضع لكم إجابتي التي أعتقد أنها صحيحة مِن وجهة نظري الفقيرة، وهي:
– لا يوجد ما يثير غضب النملة؛ لأنها تتمتع بالتفرد والتعمق فوق مستوى الكائنات الأخرى فكريًا.